الطريق
الخميس 16 مايو 2024 06:15 مـ 8 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

قصة قصيرة… ورد

الكتب محمد الخولي
الكتب محمد الخولي

تبدو بيوت قريتنا من بعيد كجيش منسحب، مجموعات متفرقة، ومبعثرة، يتكئ كل جندي على الآخر منهكًا، ينزف قهرًا وألمًا، وعلى وجوههم آثار الهزيمة. هى مثلهم فى كل شىء، تشبههم حتى فى أعمارهم المتقاربة، وأطوالهم المتساوية.

لم نعرف وقتها بيوت الإسمنت، تتصاعد من أسطحها خطوط دخان متعرجة، كثيرا لا ندخل البيوت من أبوابها، ننتقل من بيت إلى بيت من على السطح. هي نفس القرية التي لم يتغير شكلها منذ سنوات، حتى هذا الصباح.

كان صباحا رماديا، يسيطر الضباب على سمائه، والصمت يسود الدار، صباحا كئيبا ككل الصباحات التي تبعت غياب خالتي ورد، استيقظت مهموما، أبحث عن أمي فلم أجدها.

ورد، محبوبتي الأولى، أحبها عن كل نساء الدنيا، سألتها يومًا: "إنتِ هتتجوزى إمتى يا خالة؟"، نظرت إلىَّ بحب واحتضنتنى، وقالت كأنها تخاطب نفسها: "لما ربك يصلّح القلوب ويفتحها، ويقرب المسافات".

قلب خالتى ورد هو أصلح قلب فى الدنيا، ومفتوح على كل الناس. بداخله مكان لمَن تعرفه ومن لا تعرفه، تحب كل شىء حتى الطيور والبهائم، لم أرَها يومًا غاضبة، ولم أسمعها ناقمة على شىء، هى الحب والجمال كله. سمعت أمى تلومها يومًا على رفض العرسان: "الواد حسن يتيم لا أب ولا أم، وهتبقى فى الدار لوحدك ولا حد هيقولك بتعملى إيه". كانت ورد لا ترد عليها، تنظر فى الفراغ، وتقول: "لما ربك يصلح القلوب، ويفتحها، ويقرب المسافات".

لم توجه حديثها لأمى، لكن أمى كانت تغلى غضبًا، ضربتها على صدرها كأم غاضبة، وقالت: "لا هيصلح قلوب ولا هيفتحها والمسافات البعيدة مابتقربش، فوقى لنفسك وشوفى حالك". تركتنا أمى، فنظرت إلى ورد وابتسمت.

حكاية عشق ورد تصلح لأن تروى كحكايات العشق الأسطورية، قصتها يمكن أن تسمى "ورد والدرويش"، لم يكن اسم حبيبها درويش، لكنه كان درويشًا فى كل شىء، حتى فى حبه. كانت ورد تحكى لى الحكاية من بدايتها، تنظر إلى بعيد كأنها تسترجع ذكريات من 1000 سنة، رغم أن كل الحكاية لم يمر عليها سوى أشهر، تنظر إلى هذا البعيد وتبدأ فى الحكى: "بالساعة واليوم والشهر والسنة مش عارفة أنا قابلته إمتى، لكن أنا فاكرة يومها كانت الشمس فى نص السما، بس ماكانتش حامية علينا، كنا بنجمع القطن، وكان أفندى من مصر مبهور بكل حاجة شايفها، بينط من على الأرض من الفرح، ماتكلمناش ولا كلمة، بس حسيت إنى أعرفه من سنين، كان صاحب خالك فى الجيش، أبوه كان باشا كبير فى مصر، وزيارته اللى كانت مفروض تبقى يومين بقت شهر".

تتغير ملامح ورد وهى تحكى عن درويشها؛ يتفتح وجهها، تتخلص من خجلها، يخرج الكلام من فمها كفراشات تهرب من حبس محكَم. أجلس أمامها منصتًا، أخاف أن تفوتنى أى تفصيلة، أنا أعرف الحكاية من أمى، لكن الحكاية بصوت ورد مختلفة، كنت أرى خلف صوتها قلبًا مكسورًا، أراه عندما تحكى عن لقاءاتهما عند الساقية، تعدل شالها القطيفة وتقول: "كنا نذهب إلى الساقية بعد غياب الشمس، ونقعد عندها لمطلع الفجر، تطورت علاقتنا، ودُبْنا فى بعضنا، كنت لا أتخيل يومًا دون أن ألمس يديه، كنت أرتاح فى حضنه كأننى أنام فى حضن السماء، حكى لى كل شىء، رسمنا بكرة سوا، سننجب بنتين وولد، كان يحب البنات، سنعيش بين مصر والبلد، وسيكون لنا دار هنا وشقة هناك"، تصمت ورد فجأة، وأرى في عينيها دمعة.

حكايتها مع الدرويش كانت تنشر البهجة والأمل. غاب الدرويش عن ورد سنة كاملة، كانت تذهب كل يوم عند الساقية، تلمس الأرض، وتوشوش الشجر، وتتحسس الحجر الذي كان مقعدا لهما.

اصطحبتنى يومًا إلى هناك، جلست ووجهت وجهها نحو السماء، تمتمت بكلمات لم أفهمها. أعرف أنا بقية الحكاية التى لا تريد ورد إكمالها، أراد الدرويش الزواج بها، رفض جدى وغضب من باب "لا نزوج بناتنا لغريب"، حكى لها الدرويش أن أباه هو الآخر رفض، "مش هناسب فلاحين"، غاب الدرويش، واختفى، قالوا قُتل، وقالوا حبسه أبوه فى قبوٍ لا تدخله الشمس، وقالوا إنه سافر ليرى بنات الخواجات. تبدّل حال ورد، وشحب وجهها، وغابت عنها الحياة، كانت تنتظر خلاصًا لا يأتى، لكن الحكاية لم تنتهِ هنا، وإلا لَما كانت قصة أسطورية، ومثلها مثل آلاف القصص التى تنتهى تلك النهاية.

عاد الدرويش فى ليلة من ليالى الشتاء، سمعته يتحدث إلى ورد من الشباك، وعندما شعرت بى أقسمت علىَّ أن أُبقى الأمر سرًّا، حتى لا تُقتل، فوعدتها خوفًا عليها، وعادت لقاءاتهما، لكن مع مزيد من السرية. كنت أجلس إليها يوميًّا لتحكى لى، وكنت أصلى لها كل يوم ليكون الدرويش من نصيبها.

وفى صباحٍ اختفت ورد، قالت امرأة لجدتى إنها رأتها تركب القطار، لطمت جدتى ولبست من يومها الأسود. غابت ورد سنوات كثيرة، لكنها عادت في صباح آخر. المسافة بين دار جدى ودارنا ثلاثة أسطح لو أردت الذهاب إليهم من أعلى، وشارع واحد إن قررت المشى على الأرض. جريت إلى هناك بحثا عنها، لكنها اختفت من جديد. سألت عليها الجميع، كانت وجوههم بائسة، جامدة، لا تعبّر عن أى شىء، فقط بكت جدتى عندما سألتها، وأدارت وجهها نحو جدى، وهى تصرخ بصوت مكتوم: "قوله فين ورد". لم يُجب جدى، ومسح وجهه بكُم جلبابه وهو يتمتم: "ارتاحت"، كانت كلماته واضحة، لكننى تعمدت ألا أفهم قصده. انسحب الجميع من المشهد، وفوجئت بأنني أقف وحدي.

للتواصل مع الكاتب