الطريق
الجمعة 9 مايو 2025 08:35 صـ 12 ذو القعدة 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب

ياسر أيوب يكتب: داكار وتناقضاتها والإمبراطور الذى هوى

من نافذة الطائرة تبدو العاصمة السنغالية داكار كأنها إمرأة تمد ذراعيها تحتضن المحيط فهى أقرب وأول مدينة فى كل أفريقية تلامس مياة المحيط الأطلنطى أما على الأرض تصبح إمرأة عاشقة لتناقضاتها ولا تخفيها أو تعتذر عنها أو تخجل منها هواها فرنسى وقلبها أفريقى بنت على ساحل المحيط بيوتها الجميلة وفنادقها الأنيقة واحتفظت فى الداخل بأسواقها المزدحمة والصاخبة وشوارعها المسكونة بالغبار والألوان الصارخة فوق الأرصفة تسير نساء ورجال بثياب فرنسية أنيقة أو ثياب أفريقية مميزة وبينهم تتمدد رسومات فوق كل رصيف ولكل رسمة حكاية ومعنى وفى الشوارع تتسابق السيارات الفارهة مع عربات بدائية تجرها الخيول ووجوه متعبة لكنها رغم التعب لا تزال قادرة على الغناء والابتسام دون أى شكوى أو غضب أكشاك الطعام وسط مساجد وكنائس وحولها باعة جائلين يبيعون المصاحف والصلبان أمام محلات لبيع الخمور ومنحوتات أفريقية بدائية بجوار أحدث الأجهزة والتليفونات المحمولة مدينة تحلم وتجرى للمستقبل دون أن تنسى او تشطب تاريخا قديما وحزينا حين كانت مجرد ميناء لتصدير الأفارقة كعبيد تنقلهم المراكب للولايات المتحدة وأوروبا وفوق جزيرة جورى أمام داكار كانت بيوت هؤلاء يبقون فيها قبل الرحيل مكبلين بالأغلال .. وكانت بعد تأسيسها كمدينة 1857 هى الميناء الرئيسى لكل الغرب الأفريقى وعاصمة لمستعمرات فرنسا الأفريقية منذ 1902 وتحولت لمدينة فرنسية رسميا منذ 1916 وظلت فرنسية حتى استقلال السنغال 1960.
وكنت قد ذهبت إلى السنغال فى 2007 لحضور أول مؤتمر أفريقى للرياضة ودورها فى التنمية والتعليم بدعوة من السنغالى لامين دياك الذى كان وقتها رئيس الاتحاد الدولى لألعاب القوى دعوة جاءت بعد حوارات طويلة متبادلة وأرادنى دياك أن أذهب إلى داكار للمشاركة فى نقاشات المؤتمر وأيضا لأن أشاهد تجربته التى بدأها فى مدارس داكار وكان هناك أيضا المصرى سيف حامد رئيس الاتحاد الأفريقى للهوكى والجزائرى مصطفى لارفاوى رئيس الاتحاد الدولى للسباحة وأقيم المؤتمر فى قاعات فندق ميريديان داكار الذى كان أيضا مقرا لإقامة كل ضيوف المؤتمر ولا أزال أذكر حين جلست مع لامين داياك فى جناحه الضخم بالفندق وأمام نافذة كبيرة تبدو خلفها جزيرة جورى وحكاياتها الحزينة حين كانت تتجمع حولها مراكب الأوروبيين والأمريكيين انتظار لخطف الأفارقة والرحيل بهم بعيدا إلى حيث المجهول كعبيد لا وطن لهم او حقوق ومستقبل وحياة .. وكنت أحيانا حتى أثناء إجراء الحوار أفقد تركيزى قليلا وأستعيد ذلك الماضى الحزين وكيف تغير الأفارقة ولم يعودوا عبيدا لأحد واستقلت بلدانهم وبدأوا تحقيق أحلامهم وأصبح منهم من يدير اتحادات رياضية دولية .. لكننى وقتها لم أكن أتخيل أو أتوقع يوما ما سيأتى بعد سنوات تتم فيه محاكمة لامين دياك فى باريس متهما بالفساد والرشوة فى 2015 وانتهت بالحكم بسجن دياك أربع سنوات وكان من المستحيل توقع ذلك وأنا اجلس أمامه فى داكار وأرى رجلا يتمتع بنفوذ عالمى سواء كرئيس للاتحاد الدولى لألعاب القوى أو عضو الشرف فى اللجنة الأوليمبية الدولية يستقبله رؤساء الدول فى الغرب والشرق ويعامله الجميع كأحد قادة الرياضة فى العالم.
وبالتأكيد كانت حكاية داياك تشبه فى جوهرها حكايات رياضيين كثيرين سواء فى أفريقيا أو العالم كله يبدأون مشاويرهم الرياضية بأحلام بحجم السماء ورغبة حقيقية وصادقة فى التغيير والتطوير وصناعة المستقبل الأجمل ثم يأتى النجاح ومعه الشهرة والمناصب الدولية والثروة فتموت الأحلام أمام سطوة المطامع وقوة الإغراءات ويتم الغرق فى بحور الفساد وكان داياك قد بدأت رحلته 1957 كبطل لغرب أفريقيا فى الوثب الطويل ثم بطولة جامعات فرنسا التى ذهب إليها ليستكمل دراسته الجامعية ثم أصبح أحد أفضل عشرة لاعبين فى العالم فى الوثب الطويل ورغم ذلك اعتزل الوثب الطويل وبقى لاعبا لكرة القدم حتى اعتزلها 1962 وأصبح سكرتيرا للاتحاد السنغالى لكرة القدم ولم يستكمل المهمة وانتقل لكرة القدم مرة أخرى مديرا للمنتخب السنغالى ثم مفوضا لإدارة الرياضة السنغالية ثم وزيرا للرياضة وعمدة لمدينة داكار ونائبا لرئيس البرلمان السنغالى ثم رئيسا للاتحاد الدولى لألعاب القوى 1999 وحقق للعبة نجاحات عديدة حكى لى عنها طويلا وكلها كانت حقيقية وجميلة ومهمة دون اى مبالغة أو مجاملة إلى أن بدأت حكاية السقوط من القمة وبعد الانتصار جاء الغش وجاءت المنشطات وتجارتها والرغبة المحمومة فى تحقيق الربح بأى ثمن أو وسيلة حتى ولو كانت على حساب القان.

من كتاب بلدان على ورق