الطريق
الجمعة 9 مايو 2025 07:39 صـ 12 ذو القعدة 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب

محمد الجوهري يكتب: في طرقات أعرفها.. أبحث عن نفسي

“لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ” – حين تتبدل الملامح ويظل الحنين وحده صادقًا

«رجعوني عنيك لأيامي اللي راحوا… علّموني أندم على الماضي وجراحه» – هكذا تشدو أم كلثوم، وكأنها لا تغني بقدر ما تُفكك الزمن، وتعيد صياغة العلاقة بين الذاكرة والمكان، بين الوجوه التي كانت والأماكن التي نعرفها، أو بالأحرى… كنا نعرفها.

في لحظةٍ ما، دون أن ندري، ينفرط خيطٌ خفيٌّ كان يشدُّنا إلى العالم، فننظر حولنا، ونشعر أن الأشياء لم تعد كما كانت. ليس الزمن وحده من عبث بها، بل نحن أيضًا – أو ربما، عبثت بنا الحياة حتى تبدلنا دون أن نعي. نمر على الشوارع ذاتها التي كنا نعرفها، لكنّ الأرصفة تنظر إلينا باستغراب، كأنها تقول: «مَن أنت؟ ومن قال إن لك هنا ذكرى؟».

هكذا يتحوّل الإنسان إلى غريب في عالمه، وتتآكل هويته الرمزية شيئًا فشيئًا، لا من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضًا. إنّ «الغربة»، كما وصفها تشيخوف، ليست في البعد عن الوطن، بل في أن يعود المرء فلا يجد نفسه. وتلك هي الغربة الأشد، الغربة التي تأكل المعنى من جذوره.

قد يقول قائل إن التغير سُنة الحياة، وإن التحول دليل على النمو، لكن هل كل تحول نمو؟ أحيانًا يكون التغير انفصالًا، تمزقًا داخل الوعي، حيث يصبح الإنسان مرآة مهشّمة تعكس صورًا متعددة لا يملك التماثل معها. وهذا ما يفسر ربما قلق سارتر حين تساءل: «هل نحن ما نصنعه من أنفسنا، أم ما تصنعه بنا الأيام؟».

في لحظات كهذه، يُصبح الماضي ملاذًا، ليس حبًا في ما كان، بل لأنّ ما هو كائن لا يحمل الألفة. فنرتد إلى الوراء، نستعيد التفاصيل الصغيرة: صوت الباب حين يُفتح، ضحكة أمّ في مطبخ صغير، فنجان قهوة على شرفة قديمة. لكنّ المفارقة أن الذاكرة ليست أرشيفًا دقيقًا بقدر ما هي سردية تتشكل وفق أهوائنا، إذ أن التمثل الذهني للماضي لا يخلو من الحنين، ذلك الحنين الذي يجمّل الندبة ويصنع من الألم نغمةً شجية.

في كتابات دوستويفسكي، ثمة شعور دائم بأن الإنسان يُعاقب على وعيه، كأنّ المعرفة عبء لا يُطاق. وهنا، حين نعي أن لا شيء يبقى كما هو، نُدرك هشاشتنا، ونبدأ في التمسك حتى بالظلال، نبحث عن التناص العاطفي بين الأمس واليوم، عن صدى لضحكة قديمة، عن تماثل بين وجوه الحاضر ووجوه الغائبين.

وهكذا، نمضي في الحياة كأننا نعيد كتابة الرواية ذاتها، لكن بلغات مختلفة، لا لأننا نهوى التكرار، بل لأننا نبحث عن أصل ضائع، عن لحظة صفاء تشبه نبوءة صوفية قديمة تقول إن «الكون بأسره موجود داخل قلبك، وإنك إذ تفقد نفسك، تفقد الكون».

يا صديقي، لا أنت أنت، ولا الديار ديار، لكن ربما في هذا الضياع البديع تكمن الحقيقة، إذ لا ثبات في عالم متحرك، ولا يقين في سردية تتقاطع فيها الحكايات، وكل ما علينا هو أن نمضي، ونترك للأيام أن تعلّمنا كيف نصبح آخرين، دون أن نفقد ملامحنا الأخيرة.