شحاته زكريا يكتب: لماذا لا احتفل بالترند؟

في عالم يتنفس من رئة الهاتف ويقيس حرارة الأحداث بعدد "المشاهدات" و"المشاركات"، صار الترند هو النجم الأوحد في سماء الاهتمام. لا يهم إن كان ضوءه حقيقيا أم صادرا.عن حريق يكفي أن يلمع لكن هل يستحق الترند أن نحتفل به دائما؟ وهل كل ما يشغل الناس يستحق أن يشغل عقولنا وضمائرنا؟
لست ضد معرفة ما يشغل الرأي العام ولا أنكر أن بعض "الترندات" تضيء قضايا مهمة أو تكشف عن مزاج شعبي حقيقي. لكن ما أقلّ هذه الحالات وما أكثر ما يأتي عكسها: تفاهات تتضخم وقضايا تُختزل، وأحيانا فضائح تصنَع وتُروَّج فقط لأننا سلمنا عقلنا لخوارزميات لا تسأل عن القيمة بل عن التفاعل.
أخطر ما في الترند أنه يضعف قدرتنا على التمييز ما دام الكل يتكلم نفترض تلقائيا أن ما يُقال يستحق وما دام الكل يشارك لا نريد أن نبدو خارجه فندخل ساحة الهاشتاج لا بقناعة بل برغبة في البقاء ضمن السرب.
وبهذا يصبح الترند أحيانا اختبارا خطيرا لضمائرنا: هل نشارك لأننا نؤمن؟ أم لأننا نخاف من عزلة الرأي؟ هل نردد ما لا نعرف فقط لأن غيرنا قاله؟
الترند لا يمنح وقتا للتفكير بل يفرض إيقاعا لاهثا: عليك أن تتكلم الآن ، أن تكتب الآن، أن تحكم الآن، وإلا فاته القطار. لكن الحكم الجيد لا يُصنع في زحام الانفعال بل في هدوء التروّي وحين ننقل معارك الرأي من المساحات الحرة إلى ساحات الغضب اللحظي ، فإننا لا نخدم قضايا، بل نُغذي الفوضى.
أنا لا أحتفل بالترند لأنه غالبا ما يقتل العمق. يقودنا إلى التفكير في "ما هو شائع" لا "ما هو صادق". يجعل من التهكم بديلا للحجة، ومن السخرية بديلا للنقد، ومن العناوين الصاخبة بديلا للفهم وما أخطر أن تصبح القضايا العامة مجرد "ترندات" تُستهلك في ساعات وتُنسى في الغد.
ثمّة شيء مخيف أيضا في قدرة الترند على فرض أحكام جماعية. فكما يرفع شخصا فجأة قد يسحق آخر دون محاكمة لا أحد يسأل عن الحقيقة وسط الموجة، لا أحد يسمع صوت العقل وسط التصفيق أو التصفير نحن هنا أمام سلطة بلا مساءلة وتأثير بلا مسئولية.
ليست المشكلة في الترند ذاته بل في غياب الوعي النقدي في التعامل معه. المشكلة أننا نمنحه حجمه قبل أن نسأل عن مضمونه ونقيس الرأي العام بما تقوله "المنصات" لا ما يُفكر فيه الناس حقا.
والمؤسف أن الإعلام نفسه الذي يُفترض أن يرشد.صار أحيانا تابعا للترند لا سابقا له يُلهث خلف ما يشد الانتباه ولو كان تافها، ويهمل ما يحتاجه الناس لأن "لا أحد يهتم".
لذلك لا أحتفل بالترند.
لا لأنه شر دائم بل لأنه وهم لحظي ولأن القضايا الجادة لا تُناقش في ٣٠ ثانية. لأن العقل لا يُستفز بالضجيج.بل يُقنع بالحجة ولأن احترام القارئ يبدأ من احترام عقله.لا إثارة غريزته.
ربما كان من الأسهل أن أندمج في الموجة أن أردد ما يُقال وأن أتوارى خلف ازدحام الأصوات لكني اخترت أن أتأمل لا أن أحتفل وأن أقرأ لا أن أشارك عشوائيا لأن ما يبقى في النهاية ليس ما ارتفع للحظة بل ما ثبت على قيمة.