شحاته زكريا يكتب: الخرطوم لا تنام.. والحرب تأكل أبناءها

في ليل الخرطوم لا يغفو أحد. المدينة التي كانت تُعرف بصفائها وسكونها باتت اليوم تمشي على حافة الكابوس لا صوت يعلو فوق هدير الرصاص، ولا ضوء يسبق الفجر سوى ألسنة اللهب الحرب هناك لا تدور في ميادين السياسة، بل في بطون الأطفال الخاوية وفي أعين الأمهات التي جفّ دمعها من الانتظار.
منذ أكثر من عام وسودان النيلين ينزف لم يعد للسلام وجه ولا للسيادة هيبة، ولا للمستقبل ملامح. انقسم الوطن على نفسه وتنازعت البنادق على الخراب القتال بين "الجيش" و"الدعم السريع" تجاوز الحدود العسكرية، وتمدد في الأسواق، في البيوت، في قلوب الناس ما عاد للناس أمل في أن يكون الغد أفضل، بل فقط أن لا يكون أسوأ.
في الخرطوم يولد الأطفال في ظل المدافع. يُولدون لا ليبكوا كما يفعل الأطفال بل ليصمتوا فورا خوفا من أن تفضحهم صرخة أو تنهيدة. أي لعنة هذه؟ وأي زمن عربي هذا الذي نحياه حيث تصبح "النجاة من الموت" إنجازا يوميا.
أين العالم؟ سؤال تردده امرأة في الأبيض، فقدت زوجها في السوق وابنها في النزوح، وتخشى أن تفقد عقلها وهي تنتظر خبرا من أي جبهة أين العالم من ١٣ مليون نازح؟ من مدن خالية، ومدارس تحوّلت إلى ملاجئ، ومستشفيات تعمل بلا كهرباء أو دواء.
لكن الأدهى من صمت الخارج هو خيانة الداخل. زعماء يتفاوضون على الخرائط لا على الأرواح.يتقاسمون النفوذ كما يتقاسم اللصوص الغنيمة ولا يسألون أنفسهم لمن نحكم إذا مات الشعب؟.
الخرطوم الآن لا تحتاج إلى المزيد من الكلمات بل إلى قلوب تُدرك أنها تحترق. إلى أقلام لا تُدافع عن طرف بل عن وطن. إلى صوت عربي صادق يقول: "كفى" دون تردد أو مصلحة. لا نحتاج إلى بيانات إدانة ، بل إلى رجال يوقفون الحرب لا من يباركونها في السر ويتباكون عليها في العلن.
لقد تحوّلت الحرب في السودان إلى محرقة بطيئة. كل ساعة تمرّ تسلب أمًا ابنها وتطرد عائلة من بيتها وتطفئ نورا في مدرسة أو مسجد أو شارع بلد كامل يُمحى من الذاكرة أمام أعيننا ونحن نتابع فقط ونكتب: “آخر التطورات”.
ألم يحن الوقت لنسأل: من أجل ماذا تُزهق الأرواح؟ من أجل أي كرسي تُباع المدن؟ ومن بقي من هذا الشعب ليحكمه المنتصر؟!
الخرطوم لا تنام، لأنها تخاف إن أغلقت عينيها أن تستيقظ وقد فُقدت قطعة أخرى منها كل شارع فيها شاهد على خيانة وكل جدار يحمل رائحة بارود وكل زاوية تحكي قصة مفقود.
لكن وسط هذا الظلام ما زالت هناك عيون تُضيء. أطفال يرسمون السلام بالطباشير على جدران الملاجئ نساء يخبزن الحب في أفران الطين. شباب يصنعون الأمل من قلب الدمار هؤلاء هم السودان الحقيقي لا الجنرالات ولا المرتزقة.
سيأتي يوم تعود فيه الخرطوم لتنام مطمئنة، لكن حتى يأتي لا بد أن نصرخ جميعا أوقفوا هذه الحرب، أوقفوها الآن.