الطريق
الخميس 9 مايو 2024 04:20 مـ 1 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

قيامة بيروت.. مشاهد من خلف المأساة: زفاف عرس لم يكتمل وقديسة تنقذ الأطفال وصانع البهجة ينقل الدمار

مشاهد من خلف المأساة
مشاهد من خلف المأساة

أفرادٌ سائرون في شوارع بيروت يقصدون إتجاهات مختلفة، وآخرون في أعمالهم اليومية يؤدونها بتفان وجد وإخلاص، وغيرهم يقضون حوائجهم وينهون أمورهم ويستعدون لمواعيد ومناسبات قادمة حددوها، إلا أن الزمن توقف لثوانٍ معدودة، انفجر خلالها مرفأ بيروت، لتتغير كامل الخريطة التي رسمها هؤلاء الأشخاص، وترسم الاحداث لهم خريطةً جديدةً بعفويةٍ خرجت من قلب النيران.


طوني واكيم شاب لبناني كان يسير رفقة خطيبته بعد نهاية جولة تسوقية في محال بيروت، وعند شارع فردان التجاري؛ اهتزت سيارتهما ثم تبعها تكرار صوت انفجار أقل مما حدث، وتصاعدت الأدخنة في السماء على بعد عدة كيلو مترات، إلا أنه لم يفهم ماذا يحدث حينها "صرنا نسأل شو صار ما حدا عارف حتى كان في جيش على الطريق قالوا ما بنعرف شو عم بيصير".

واكيم اعتاد نقل جمال بيروت وسحرها للعالم ليجد نفسه يبث مشاهد الدمار عبر منصته

يصف الشاب المشهد بعدها بأنه صار فوضى، فالجميع يركضون في إتجاهات مختلفة بلا هدى هربًا إلى مكان لا يعلمونه بعد دقائق وقفوها ساكنين من هول الصدمة، والزجاج المتكسر من السيارات وواجهات المحال التجارية يملأ جنبات الطريق، والتساؤلات تملأ الشوارع عما إذا كانت إسرائيل أقدمت على خطوة جريئة وقصفت أهداف داخل العاصمة بيروت.


الفوضى التي رآها واكيم في الشارع كانت تزداد سوءً كلما اقترب من مرفأ لبنان، ليتبدل الزجاج المكسور المنثور على الأرض بالدماء، والأجساد التي كانت تجري هربًا أصبحت ملقاة في الطرقات أو يتحامل أصحابها على إصاباتهم للوصول إلى الإسعاف أو المستشفيات، والعربات بين واقعة من فوق الجسر ومتحطمة وأخرى بها أجساد تنشد المساعدة للنجاة.


نسي واكيم في لحظات الهدف من وصوله للمكان "مش عارف شو أعمل أساعد ولا أصور؟" إلا أنه قرر في النهاية أن يقوم بالعمل الذي يتقنه وجاء من أجله، فالشاب يطوف محافظات وولايات ومقاطعات لبنان منذ عشرة أعوام، لينقل كل تفاصيل بلاده وجمالها من خلال صفحة أسماها وأصدقاؤه: "بنحبك يا لبنان"، حيث قرر نقل ما يحدث لعل ما ينقله من بث مباشر يساعد على جلب المزيد من العون والمساعدة في كارثة بلاده.


لم يكن ما ينقله واكيم سهلًا عليه، فالشاب الذي اعتاد نقل الجمال والمناظر الساحرة للعالم عن لبنان داعيًا له لزيارتها والاستمتاع فيها، ينقل خلال تلك اللحظات دمارًا وخرابًا ونيرانًا ومبانٍ متحطمة وأجسادًا ميتة وأشلاءً متناثرة، ينقلها والدموع تملأ عينيه حزنًا على تلك المدينة الجميلة التي أصابها الخراب في لحظات معدودة.


"كل شيء اتدمر.. حديد المخازن اتطحن وكتير من المباني اتساوت بالأرض.. هاد متل قنبلة نووية صغيرة".. مشاهد وصف بها الشاب المشاهد التي كان يراها بينما يفتح الكاميرا الخاصة بهاتفه لينقل الصورة في بث مباشر، يحاول شق طريقه بين الحشود بسيارته بينما يترجل أحيانًا لالتقاط الصور لتلك الأماكن التي كانت تتلألأ قبل دقائق قليلة، إلا أنه لم يستطع الاستمرار في تلك الظلمة التي حلت على روحع وقرر الهرب بعيدًا عن مكان الانفجار.


ساعتان كاملتان استغرقهما واكيم وخطيبته للخروج من المكان، فالطريق للعودة لم يكن سهلًا أويسيرًا، الشرطة تجبر المارة على البقاء في أماكنهم في الوقت الذي يحاول فيه الكثيرون ممن ساقتهم الأقدار إلى مكان الحادث أن يفروا منه، ليبحث الشاب عن طريقة للخروج بين الطرقات الضيقة المتعرجة المليئة بالحطام، ليبعد عن المكان بالكثير من الكيلو مترات، إلا أن الحطام لم ينته، وزاد من وجعه ما رآه من البعض الذين يسرقون الألومونيوم والحديد من بين الدمار والخراب.


"الغلا خلى سعر الحديد يصير غالي كتير" فالنباشون لم يفرق معهم الظرف والدمار والخراب في البلاد، وصاروا يسرقون الحديد من بيم الحطام، أراد ملاحقتهم ومطاردتهم وتصويرهم، إلا أن الخوف من المجهول منعه، ليصل بعد عدة ساعات إلى منزله، غير مصدق لما رآه وكأنه كان في داخل أحد أفلام الخيال، ليقرر أن يجمع ملابسه ويغادر بيروت للمبيت في الجبل لينفض عن نفسه آثار تلك الرحلة وسط النيران والخراب والدمار.

ممرضة تنقذ ثلاثة أطفال وتتحول إلى قديسة: صاروا قطعة مني


ومن شارع فردان التجاري إلى مستشفى القديس جورجيوس بالقرب من مرفأ لبنان المحترق، تقف الممرضة باميلا زينون محتضنةً ثلاثة أطفالٍ رضعٍ بين ذراعيها، بعد أن استطاعت إنقاذهم من الموت في المستشفى المتحطم الذي امتلأ بجثث الضحايا وأشلائهم، لتنتشر صورتها كالنار في الهشيم كأيقونة من أيقونات البلد الجريح.
الممرضة تروي قصتها التي بدأت وقت وقوع الانفجار، الذي أحدث ما يشبه الزلزال زيسقط جزءً من السقف زيحطم معظم أجزاء المستشفى، لينتشر الخوف والرعب والذهول من هول المفاجأة والصدمة، إلا أن حضانات الأطفال لم تتأذى بشكل كبير من الانفجار وآثاره.


الكهرباء انقطعت إثر الدمار الذي حل بالمستشفى وبيتها، وبات الجميع يبحثون عن النجاة وسط ظلام حالك، حتى وجدوا مخرجًا صغيرًا بدأ الجميع الخروج منه ناجيًا بنفسه، إلا أن "القديسة"، كما أطلق عليها اللبنانيون، أبت إلا أن تخرج حاملةً الرضع الثلاثة بين أيديها، تحتضنهم بكل قوةٍ لحمايتهم من المصير المجهول الذي ينتظرهم عند الخروج.


وبين الدماء التي أغرقت السلالم والآباء الضين يحملون أطفالهم بين أيديهم في خوفٍ وهلع، والجثث التي تنتشر في أرجاء المستشفى، هبطت الممرضة من الطابق الرابع بالأطفال الثلاثة "كنت كتير حريصة وكل همي إني أوصل بيهم الدور الأرضي من غير ما يقعوا ولا افقد حدا منهم".


رحلة باميلا بالأطفال لم تنته بالخروج من المستشفى، حيث بدأت رحلة أخرى للبحث عن مستشفى سليم آخر من الممكن أن يستتقبل الأطفال "كان مستحيل في الوقت ده ألاقي سيارة" لتسير الممرضة على قدميها حاملةً الأطفال تبحث عن مستشفى يستقبلهم "كنت بطلب من المارة ملابسهن أغطي بيها الأطفال وأحميهن من البرد"، وهو الطلب الذي لم يرفضه أحد.


العديد من المستشفيات قصدتها الممرضة، حتى استقبلت مستشفى "أبو جودة" الأطفال، واستغرب الأطباء فيها من أنهم وصلوا بحالة جيدة، وكأن السماء تكافئ الممرضة بألا يضيع نجهودها وبطولتها سدى، ولتربط بين الممرضة والأطفال برباط من حب ربما لن ينقطع "الأطفال التلاتة صاروا قطعة مني"، فالقديسة قررت متابعة أحبائها باستمرار، وعدم الانقطاع عنهم، صارت شريكتهم في الرحلة وطريقهم للحياة.

تجربة زفاف العرس تحولت إلى مأساة: أجلنا الزفاف مرتين قبل ما الانفجار يدمر منزلنا

وعلى مقربة من مستشفى القديسة، وقف عروسان في "الأشرفية" يستعدان لتجربة فستان زفافهما الذي تأجل أكثر من مرة، وتوثيق تلك اللحظات بهاتف محمول، إلا أن ما توثق في ذلك التوقيت كان الانفجار الذي حول فرحة العروس إلى ذعر وخوفٍ وهربٍ من الموت.


منزل الزوجية الذي كان يستعد لاستقبال العروسين في 15 أغسطس الجاري بعد تأجيل الزفاف مرتين، الأولى بسبب وفاة أحد أقاربهما، والثانية بسبب فيروس كورونا المستجد، تحولت مقتنياته وأثاثه إلى حطام كبير وقفا بينه يبكيان ويتحسران، ليجبرهما الانفجار على بدء الرحلة من جديد.


"اليوم وأنا بجرب فستان العرس قالوا لي في المحل: هايدي المرة الأخيرة، مفيش تأجيل تاني"، إلا أن الرياح أتت بما لاتشتهي السفن وأصبح التأجيل حتميًا للعروس الحزينة، أما العريس يتأسى على منزله الذي اكتمل لتوه يوم الانفجار "مكانش ناقص غير المكيف.. اليوم العمال ركبوه وصار المنزل كامل".


المشهد القاسي لم يمنع العروسين من قليل من التفاؤل: "الحمد لله إن إحنا ما متنا، اتنين من جيراننا ماتوا من الانفجار قدام عيوننا.. مصيبتنا بتضل صغيرة طول ما احنا عايشين.. الفلوس بتتعوض".