الطريق
الجمعة 10 مايو 2024 11:15 مـ 2 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

ثرثرة فوق النيل.. الرواية التي كادت تسجن نجيب محفوظ!

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

لا يتوانى الأدبُ الحقيقيّ عن الاشتباك مع الواقع، وسبر أغواره، استشرافًا للمستقبل، وسعيًا وراء تغييره أو التحذير منه، حتى لتصل بعض الأعمال المتقنة الصادقة إلى مصاف التنبؤ بما هو آتٍ وتوقّع حدوثه، وهو الأمر الذي فعله أديب نوبل في "ثرثرة فوق النيل"، إذ يرى أغلب النقاد أنها كانت نبوءة وتحذير من نكسة يونيو 1967 (وهو الأمر نفسه الذي فعلته قصيدة "الأرض والجرح الذي لا ينفتح" التي كتبها الراحل العظيم أمل دنقل ورأى فيها إرهاصات نكسة 67).

نُشرت الرواية عام 1966 في جريدة الأهرام قبل طبعها في كتاب، أي قبل نكسة يونيو بعام واحد، ورسمتْ صورة لما آلت إليه مصر في هذه الفترة بفضل سياسات مجلس قيادة الثورة، حتى انصرف كلٌ إلى حاله لا يلوي على شيء، خوفًا أو يأسًا أو نجاة بنفسه من الدخول في ما لا قِبل له به، مع هيمنة إحساس عام بالضياع وفقدان الانتماء وتكسّر بوصلة المبادئ والأخلاق وغياب القيم والقدوة والمثل الأعلى.

تدور الأحداث في عوّامة تتأرجح على ضفاف النيل لأقل وقع قدم على مدخلها، يقصدها مجموعة من المثقفين الذين رغم اختلاف مهنهم، يجمعهم -عدا عم عبده- كونهم من أبناء الطبقة البرجوازية بالإضافة إلى حبّهم "للكيف" ونظرتهم العدمية للحياة ورغبتهم في النجاة بأنفسهم من كل ما هو جاد وحقيقي، بصنع عالم موازٍ على مقاسهم وهواهم، يغيبون فيه ويدفنون إحباطهم من الواقع ويأسهم من حدوث أي تغيير أو إيجاد قيمة لحياتهم.

وحتى عندما يناقشون قضايا الساعة كالاشتراكية ومشكلات العمال والفلاحين والرشوة وكوبا وفيتنام، لا يصلون إلى شيء، فهم منفصلون عن الواقع وجامحون إلى المتعة الصافية بلا تعكير مزاج أو ترتيب مسؤوليات على أي أحد، ولا تعدو موضوعاتهم سوى أن تكون تزجيةً لوقت الفراغ وكأنها خلفية موسيقية باهتة للحدث الأبرز في حياتهم وهو شرب الجوزة المعبأة بالحشيش.

والمكان الآخر الذي تدور فيه بعض الأحداث: وزارة الصحة، حيث يعمل أنيس زكي، البطل الرئيسي وراوي الأحداث، وفيه يظهر الصراع الذي يخوضه طوال الوقت بين غيابه المستمر عن الوعي وضرورة أن يكون متيقظًا ليؤدي المهام التي ينتظرها منه المجتمع ويدفع له مقابلًا لها، وهي "الخناقة" القديمة بين نوازع الفرد ورغباته وما يفرضه عليه الواقع الاجتماعي وقوانين المجتمع.

والمكان الثالث هو الشارع، الذي خرجت إليه المجموعة ذات يوم في محاولة للاكتشاف والتغيير، فوقعتْ لهم حادثة غيَّرت حياتهم ومصائرهم ومثَّلت الصدمة التي قادت إلى استيقاظ ضمائرهم وحتمية انتقالهم من خانة اللا مبالاة المُطلقة إلى خانة الفعل، وغيَّرت مسار الأحداث والعلاقات بين الأبطال.

يعيش أهل العوامة في عزلة عن كل ما يجري حولهم، وهم مستمتعون بذلك أشد الاستمتاع ولا يرون أي مبرر لتغييره، يلتقون كل مساء ليثرثروا بلا هدف عن أي شيء وكل شيء لكن ليس بغرض الفهم أو الوصول إلى برّ، إنما لقتل وقت الفراغ وتهيئة جو مناسب للسطل، حتى تأتي إليهم ذات يوم الصحفية سمارة بهجت التي تسعى لكتابة مسرحية عن حياتهم، فتبدأ طرح الأسئلة وتحاول دفعهم للتغيير من أنفسهم وإعادة الاشتباك مع العالم المحيط.

وبقدر ما يرفضون هم ذلك، ترفض هي الأخرى الانسياق وراءهم والتحول إلى صورة منهم، فتأبى شُرب الجوزة، وترفض إقامة علاقة مع أحدهم، وتصرّ على المضي قدما في محاولة سبر أغوارهم والبحث عن ثغرة تمكنها من إحداث أثر حقيقي في حياتهم، حتى يقرروا يومًا أن يتركوا ملاذهم الآمن ويذهبوا في نزهة بالسيارة في فترة متأخرة، وتحت تأثير السُطل ووهم القوة والسيطرة، تضرب سيارتهم أحد العابرين وتُرديه قتيلًا، فيتجمدون مرعوبين غير عالمين بما يجب أن يفعلوه الآن!

ويبدأ الاختبار الصعب الذي لم يتحضروا له من قبل: هل يحاولون إنقاذ الرجل أم يهربون بجلدهم تفاديًا للسجن والفضيحة؟ ثم ينحازون للهرب، فينقلب عالمهم كله، ولا يعود شيء سيرته الأولى، إذ يفقد الحشيش تأثيره فيهم، بل ويشحّ من السوق، وتتألّب مشاعرهم ضد بعضهم، ويفيقون، حتى إن أنيس أخيرًا يرفض ملاحظات مديره بخصوص شغله ويشتبك معه ويرد اجتراءه عليه، حتى يُحوَّل للتحقيق رهن الرفت، ويدور نقاش أخير مضني بين الجميع يقرر أنيس في نهايته أن يبلغ عن رجب قائد السيارة، لكن الأخير ينتفض ويرفض الوشاية به من الآخرين ويقرر أن يعترف بنفسه، وليحدث ما يحدث!

وتسببت الرواية في ضجة كبيرة حين صدورها، وغضب مجلس قيادة الثورة من نجيب محفوظ، وعلى رأسهم صلاح نصر رئيس المخابرات وشمس بدران والمشير عبد الحكيم عامر الذي توعَّد محفوظ فائلًا "نجيب زودها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حده"، وفقًا لما قاله رجاء النقاش في أحد مقالاته نقلًا عن سامي شرف، مدير مكتب جمال عبد الناصر، الذي أكد اتصال الفنان أحمد مظهر به -مظهر كان زميل عبد الناصر في الكلية الحربية ومن الضباط الأحرار- ونقل قلق نجيب محفوظ من تصريحات المشير عامر والغضب الرسمي ضده، وهو ما أوصله سامي شرف لعباد الناصر الذي طلب نسخة من الرواية وقرأها ثم قال لسامي شرف: ـإحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟ إنه فريد في مكانته وقيمته وموهبته،‏ ومن واجبنا أن نحرص عليه كما نحرص على أي تراث قومي وطني يخص مصر والمصريين‏"، وأمر بعدم إيذاء محفوظ.

ولولا تفهم جمال عبد الناصر وحبه لنجيب محفوظ لربما اختلف مصير أديب نوبل تمامًا

ولاحقًا قال نجيب محفوظ في ردّه على سؤال لرجاء النقاش:‏ "ظهرت رواية ثرثرة فوق النيل في عز مجد عبد الناصر‏،‏ وفي وقت كان فيه الإعلام الرسمي يحاول ليل نهار أن يؤكد انتصار الثورة والنظام وانعدام السلبيات والأخطاء، فجاءت الرواية لتنبّه إلى كارثة قومية كانت قد بدأت تطل برأسها على السطح‏،‏ وكان لا بدّ أن تكون لها نتائجها الخطيرة‏،‏ وكنت أعني بذلك محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء‏، وهي المحنة التي بدأ الناس يعانون منها‏،‏ خاصة في أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع‏،‏ وأصبحوا يعيشون في شبه غيبوبة،‏ فلا أحد يعطيهم الفرصة المناسبة للعمل والمشاركة‏،‏ ولا هم قادرون علي رؤية الطرق الصحيحة‏،‏ وفي المرة الوحيدة التي حاولوا فيها أن يعرفوا الطريق ارتكبوا حادثة رهيبة في شارع الهرم‏،‏ ولاذوا بالفرار‏".

صراع الإنسان مع القدر والموت

وأحسب أن الظرف التاريخي الذي أحاط بنشر الرواية، وكلام محفوظ نفسه كرَّس لحصر مغزى الرواية في معناها السياسي المباشر، في حين أرى أنها تتجاوز هذا بكثير، فهي رواية فلسفية بامتياز عن صراع الإنسان -عبر التاريخ- مع القدر والموت، وتفكّره في جدوى وجوده ما دامت النهاية المنتظرة مهما فعل هي الفناء والاندثار "لماذا نحن هنا؟ هل ثمة معنى لحياة البشر والموت يتربَّص بها فى كل وقت؟"

ولعل هذا المعنى ما يُعطي ثِقلًا أكبر لأحلام أنيس -بطل الرواية- وهلوساته التي ينطلق فيها بين الأجرام السماوية وقصص الملوك والملكات والمعارك الكبرى وعناصر الطبيعة ومخلوقاتها، في محاولة للعثور على مبرر لكل ما يحدث أو ربما أمل في أن المصائر قد تختلف، وربما لا يكون رصيد الإنسان النهائي من كل هذا السعي هو النسيان والمساواة مع حيوان نَفَق، أو حشرة سُحقِت أو نجم أَفَل ومات، أو شجرة اُغتيلت لتصنع منها الكراسي والترابيزات!

إنه -بشكلٍ أو بآخر- صراع بين الإنسان ضعيف البِنية قصير العمر الضائع في الكون الوسيع المُحاصر بحتمية الموت، ورغبته الملحة في تأكيد ذاته وسيطرته على مقدراته، ولعل أنيس لم يجد مهربًا من كل هذا سوى في السطل والأحلام، لكنه في نهاية الرواية عندما يكفّ عن تخدير حواسه يبدأ الالتفات إلى ما لم يره من قبل، وهي الشجرة العملاقة الراسخة التي رغم تهديدها بالفناء هي الأخرى فإنها لا تزال قادرة على النمو والتمدد وإتاحة منظر بهيج للعين، إنها تقاوم بطريقتها الخاصة ما سوف تصير إليه، وهذه أسمى وسيلة لتأكيد الذات وترك بصمة وأثر يلفت انتباه الآخرين.

إن نهاية الرواية بهذه الشكل، إضافة إلى ثورة أنيس على مديره، وتحريضه على اتخاذ فعل إيجابي، استجاب له رجب لا شعوريًا وقرَّر الإبلاغ عن نفسه، إشارة إلى أهمية الوعي في تحديد المصير، وإضفاء المعنى على الحياة، وأنه لم يفت الوقت بعد لاستعادة ما كان لنا في الأصل، وكسر عزلتنا عن العالم وعن أنفسنا، ومحاولة كتابة التاريخ بالشكل الذي يرضينا، وليس مهمًا أن ننجح في هذا أو نفشل، لكن المهم أن نعرف الطريق ونبدأ المشوار.

إن ثرثرة فوق النيل، هي ثرثرتنا جميعًا وعبثنا عندما نشعر أنه لا أحد يحتاج إلينا ولا قيمة لما نفعل ولا جدوى منه، وتعبيرنا الإنساني عن الرفض وإن بطريقتنا الخاصة التي تُؤذينا نحن أكثر مما تؤذي أي أحد، وثورتنا الداخلية على ما لا نفهم أو نقبل، ومحاولتنا لقول "لا" كبيرة وواضحة حتى إن لم يسمعها سوانا في عالم متسارع متدفّق يسحق بنيه دون رحمة لاستكمال مسيرة الدم والسُخرة.

موضوعات متعلقة