كفره ابن تيمية ورفض أموال الملك الكامل.. ابن الفارض سلطان العاشقين

رحل ابن الفارض ومازال شعره حيا فى قلوب المحبين، عالقا فى آذانهم، منتشرا في طول البلاد وعرضها حتى وصل إلى أوروبا، حيث ترجم هناك فى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا، ولا يكاد ضريح ولى أو مقام عارف بالله يحلو من أبياته، وتملأ نفوس الدراويش بعشق آل البيت، وتسقى العطاشى أقداح الحب الإلهي.

لكن من هو ابن الفارض الذى كفره ابن تيمية؟

بحسب الترجمة الوادرة فى ديوان ابن الفارض، أو سواء من ترجموا عنه أو نقلوا عن ديوانه، فإن ابن الفارض مصرى المولد والنشأة حموى الأصل، واسمه أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبى الحسن على بن المرشد بن على، وينعت بـ "شرف الدين" و"ابن الفارض" ويختلف المؤرخون فى يوم مولده والأرجح انه ولد عام (576هـ -1181م) وتوفى بالقاهرة عام ( 632هـ - 1234م ) وقد عاصر تحول مصر من حكم الفاطميين إلى الأيوبيين وانتقالها من المذهب الشيعى إلى السنى.

ونقلة ابن الفارض إلى التصوف ترجع إلى والده الذى ألقى بذور التصوف فى روحه وكيانه، ذلك أنه رفض منصب قاضى القضاة واعتزل الناس، واتخذ من الزهد والورع طريقا له وانقطع إلى الله فى قاعة الخطابة بالأزهر الشريف، وكيف لا وهو لا يرى اللذة إلا فى صحبة الفقراء، ويرى فى المنصب كل تعاسة وشقاء.

وادى المستضعفين

وعلى درب والده بدأ ابن الفارض طريق التصوف بخلوته فى وادى المستضعفين فى المقطم، يصوم النهار ويقيم الليل ويرتل الأوراد، وهذه مواده التى طبقها على نفسه حتى تحول من النفس اللوامه إلى النفس المطمئنة.

أما رياضته الصوفية الأخرى وهى مرتبطة بحياته النفسية وهى الغيبة والاستغراق إلى حد لم يكن الشاعر الصوفى يشعر بمن حوله من الأشخاص أو ما يحيط به من الأشياء، إذ كان يقضى أغلب أوقاته فى حالة سكر صوفى لا يسمع ولا يرى من يكلمه، تارة واقف وتارة قاعد وحينا مضطجع على جنبه وحينا أخر مستلقى على ظهره، أو مسجى كالميت ويقضى على هذا الحال أياما قد تبلغ عشرة أيام أو قد تزيد عنها وهو فيها بين هذا كله لايأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتكلم، وما يزال كذلك حتى يفيق وينبعث من سكره، وأول ما يتكلم به أن يملى ما فتح الله عليه من قصيدته، واستمر فيض الفتح الإلهى على ابن الفارض فى مكة، حيث رحل إلى بلاد الحجاز وانقطع فيها إلى السياحة بأودية مكة، ولم يتصل بالناس إلا عندما يزور الحرم الشريف طائفا به ومصليا فيه.

ابن الفارض يرفض أموال الملك الكامل

ولأنه ابن الفارض الشاعر الزاهد والفارس النبيل، فقد رفض أموال الملك الكامل ورفض لقائه.. كان الملك الكامل فى مجلسه الذى كان يعقده مع أهل العلم والأدب يتذاكرون أصعب القوافى، وطلب من الحاضرين أن يذكر كل منهم ما يحفظه من أبيات شعر تنتهى بحرف الياء " قافية الياء " ولم يتجاوز أحدهم عشرة أبيات.

 وقال الملك أنه يحفظ منها خمسين بيتا فى قصيدة واحدة، إلا أن القاضى شرف الدين كاتب سر الملكقال  إنه يحفظ منها مائة وخمسين بيتا قصيدة واحدة، وكانت من قصيدة ابن الفارض "اليائية" .. ونتيجة لذك أوفد الملك كاتب سره إلى ابن الفارض ومعه ألف دينار لكنه رفض قبول الأموال أو الحضور للملك، ما دعاه شوقه لاستكشاف ذلك الشاعر الذى يزهد فى المال، فقصد الأزهر ومعه الأمراء للقاء ابن الفارض الذى غادر من الباب الأخر فور أن أحس بقدومهم، قاصدا الإسكندرية، وعند مرضه أرسل إليه الملك يستأذنه فى أن يجهز له ضريحا عند قبر أمه بقبة الإمام الشافعى فلم يأذن له.

طريق الوصول مع ابن عربى

وتأثير الشيخ الأكبر محى الدين بن عربى كان مهما جدا فى نفس ابن الفارض والذى استفاد من نزعته الفلسفية وتطبعت بها أشعاره، بل لا نبالغ إذ قلنا أن تأثر ابن الفارض بابن عربى استفاد منه التصوف بجملته، ولما التقى ابن الفارض به فى مصر سأله ابن العربى أن يضع شرحا لقصيدته التائية الكبرى، فأجابه: كتابك الفتوحات المكية شرح لها.

فلسفة الحب

ومذهب الحب عند ابن الفارض مذهبا مختلفا إذ كان محبا للجمال أينما كان وفى أى صورة تجلت، وحبه للجمال على هذا الوجه أمر يمكن تصوره وتفسيره تفسيرا ملائما لحياته الصوفية، وعن حقيقة حبه الذى قضى حياته هاتفا به مرتلا لأنشودته عبر عنه فى أشعاره التى كانت أرقى واسمى ما وصل إليه الغزل الصوفى العربى من دقة الوصف ورقة الشعور وخفة الروح، وإذ يخاطب الشاعر الذات الإلهية تجد مدى الحب والعشق والوصل والهيام ( قلبى يحدثنى بأنك متلفى .. روحى فداكَ عرفت أم لم تعرفِ).. وتجده فى موضع أخر يقول:

زدنى بفرط الحب فيك تحيرا

وارحم حشى بلظى هواكَ تسعرا

وإذا سألتك أن أراكَ حقيقةً

فاسمح، ولا تجعل جوابى : لن ترى