الطريق
الإثنين 29 أبريل 2024 07:38 صـ 20 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

”الله والإنسان”.. كيف ألحد الدكتور مصطفى محمود على سجادة صلاة؟

امتلأت حياة الدكتور مصطفى محمود وسيرته بعديد من الصراعات والتحدّيات، منذ بدأ وعيُه يتفتح على الأسئلة ويحاول فهم المحيط الذي يتحرك فيه؛ الخارجي والداخلي، ويرفض أن يأخذ الأشياء على علّاتها دون معرفة أسبابها.

ولعلَّ من أكبر الأزمات التي وقعت له في بداية مشواره الفكري والأدبي، تأليفه كتاب "الله والإنسان"، الذي نشرته دار المعارف في عام 1955.

الكتاب كان يطرح عديدًا من الأسئلة الفلسفية المُتعلِّقة بالقضاء والقدر والجبر والاختيار وحدود حرية الإنسان نسبة إلى قدرة الله الكلية، وتمجيد الفردانية في مواجهة سلطة المجتمع، ونبذ الخرافات وكل ما لا يتفق مع العلم الحديث، وأن الأساس الذي يجب أن تقوم عليه المجتمعات الحديثة هو المعرفة والاهتمام بالفرد وتنميته لا التديّن والغيبيات، وهو ما شكَّل أساس المشروع الفكري الذي كرَّس له محمود حياته في ما بعد.

غير أن محمود كان لا يزال أخضرَ العود، تملؤه حماسة الشباب، ولا يجيد اختيار ألفاظه بما يوصل المعنى وفي الوقت نفسه لا يتصادم مع المجتمع الكلاسيكي الذي يقوى فيه التيار الديني يومًا بعد يوم، وربما لا يتحمَّل هذه الصراحة الجارحة في الطَرح، أو لا يملك المرونة الكافية لفهم غرض الكاتب من وراء السطور، لذا كان الاصطدام حتميًا!

الأزهر يطلب محاكمته.. والكُتَّاب: حرية رأي!

فإثر صدور الكتاب، ثار الشيوخ ومؤسسة الأزهر وطلاب العلم، ودبَّجوا المقالات عن كيف ألحد مصطفى محمود وخرج على الجماعة وأنكر معلومًا من الدين بالضرورة، وطالبوا بمحاكمته ومنعه من الكتابة وحرق الكتاب في الميادين العامة، وأصدرت دار الإفتاء تقريرًا مطولًا عن الواقعة مما جاء فيه: "الكاتب تحدَّث عن الله تعالى حديثًا ما كان يليق من كاتب مثله أن يتحدث عنه بهذه العبارات التي لا تليق، ومن ذلك قوله إن الله فكرة في تطور مستمر كما تدل على ذلك قصة الأديان، ونقول ليس الله فكرة وإنما الله سبحانه وتعالى ذاتٌ منزَّهة عن صفات الحوادث ومتصفة بجميع صفات الكمال، وهو الذي خلقك وخلق كل ما تراه حولك، فليس الله فكرة متطورة كما تقول، وليست الأديان قصة كباقي القصص، وإنما حقيقة أيَّدها الله سبحانه وتعالى بالمعجزات التي أجراها على أيدى رسله".

وبالفعل قُدِّم مصطفى محمود للمحاكمة، التي حكمت بمصادرة الكتاب وجمع النسخ التي طُبعت وإعدامها، وحتى اليوم لا تجد هذا الكتاب مطبوعًا في أي من مؤلفات مصطفى محمود الكاملة!

لكن بعض المثقفين وقفوا في ظهر مصطفى محمود خلال الأزمة، ورفضوا الاتهامات التي وُجِّهت له، وحاولوا الانتصار لحرية الفكر والتعبير، وإن أثارت حفيظة بعضهم، وطالبوا المعترضين بالرد كتابة على ما قاله محمود وليس بالاتهامات السهلة ومحاولة تأليب الرأي العام ضده، ومن هؤلاء الشاعر الراحل الكبير "كامل الشناوي" -صاحب ديوان "لا تكذبي"- الذي نَحَت عبارة عبقرية تلخِّص الموقف كله، عندما قال في مقال له إن "مصطفى محمود يُلحِد على سجادة صلاة"!

لقد أدرك الشناوي طبيعة القلق الذي يعتمل في نفس الشاب مصطفى محمود المأخوذ بأسباب الحضارة، والذي يقارن بين تأخر العرب والمسلمين وما وصل إليه الغرب من تقدم وتطور دون أن يكون الدين إطارًا حاكمًا لهم، وأنه يبحث عن إجابات لأسئلة تؤرِّقه وليس عن إحداث فتنة، وأنها مسألة وقت قبل أن يصل إليها.

وبالفعل، في غضون سنوات، وبعد رحلة من دراسة الطب والتاريخ والأديان والفلسفات الوضعية والفن، عاد مصطفى محمود ليناقش الأسئلة عينها التي طرحها في الكتاب، وأجاب عنها إجابة العالم الواثق البصير الذي قطع شوطًا كبيرًا في مشوار التأمل والفهم واليقين، حتى دانت له المعرفة ونَفَذ إلى روحها، وأصبح من أشد المدافعين عن الإسلام المهتمين بالذود عنه أمام خصومه وتجلية حقيقته للجاهلين به، وهو ما نجده خاصة في كتابيه "رحلتي من الشك إلى الإيمان" و"حوار مع صديقي الملحد" ونحو 400 حلقة قدمها من برنامجه الشهير العلم والإيمان.

اللافت أن محمود أكَّد في أكثر من مرة أنه لم يُنكر وجودَ الله أبدًا، حتى في عمق حيرته، لكنه كذلك لم يستطع تصور حقيقته، إلا بعد رحلة شاقة من البحث استغرقت نحو ثلاثين عامًا من التفكير وإعادة النظر ثم إعادة النظر، وقال منتقدًا نفسه إنه لو "استمع إلى صوت الفطرة الجوَّانية، لربما كان قد وصل إلى حقيقة الإيمان في وقت أقصر ووفَّر على نفسه عناء البحث الطويل".

إن تجربة مصطفى محمود الفكرية، سواء اتفق معها بعضهم أو اختلف، لا تني تُقدِّم نموذجًا مُشرقًا لرحلة البحث عن اليقين، وعدم التسليم للمُسلَّمات وما وجدنا عليه آباءنا، ومحاولة شق طريق يليق لنا ولو كان الثمن نبذ المجتمع وإساءة فهمه لنا، فشرف الغاية يستحق ما نتكبده للوثل إليها.

اقرأ أيضًا: الزواج ليس الجنس ولا الأمومة!