الطريق
الإثنين 29 أبريل 2024 01:44 صـ 19 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

قراءة في قصة ”بيت من لحم” لـ يوسف إدريس

اختار يوسف إدريس لقصته عنوان "بيت من لحم"، لا بيتًا من طوب أو أسمنت، لكن من لحم، دون تحديد نوع هذا اللحم، هل هو لحيوان أم إنسان، قبل أن نكتشف قرب النهاية أنه لحم إنساني لكن الشهوة الحيوانية تُحرّكه، فكأنّه لحم حيوان من الداخل ولحم إنسان من الخارج، أي إنه لم يعد بالإمكان تمييز أي شيء، فالمظاهر دائمًا خادعة!

والبيت هو المأوى والسكن عادة، لكن عندما يرتبط باللحم، فأي شيء يُؤوي، وكيف يمكن أن يحدث هذا أصلًا؟ ثم كيف تظل البيوت بيوتًا، هل بالأعمدة التي تُقيمها أم بالأرواح التي تسكن داخلها وتعطي له معنى وتجسدًا؟ وإذا تغيرت طبيعة هذه الأرواح وتلوَّثت أو سقطت وضلت الطريق، فهل تبقى البيوت بيوتًا؟

وهو لم يقل بيت لحم أو بيت اللحم، لكن بيت من لحم، أي إنه يتكوَّن من هذا اللحم، اللحم عماده وأساس وجوده ومبرر استمراره، وغيابه يعني انهياره، أو فقدانه ركيزة أساسية من أساسات وجوده التي تتمحور حولها حياته.

وبدأت القصة بمجموعة من الرموز الحسية والمعنوية، هي الصمت والخاتم والمصباح

الخاتم: خاتم زواج، حلقة، دائرة، لا نهاية، أما في النص فخاتم زواج المُقرئ الكفيف من الأرمة، وعكس ما يشير إليه في العادة من علاقة حلال، فإنه هنا على النقيض تمامًا: بوابة ولوج الفتيات إلى حلقة الجنس المُفرغة التي لا نهاية لها.

بل من السخرية أن تكون أداة نوال الحرام: خاتم الحلال، في إشارة إلى التباس المفاهيم وعدم صرامة الفصل بين المُحدِّدات، والتماهي الذي يحدث عادة في الحياة الواقعية وتداخل المعاني وعدم وجود كتالوج واحد جامع مانع لتفسير الظواهر الإنسانية، إلا بوصفها تجليات للنفس في فجورها وتقواها ومحاولة لترتيب الإنسان العالم، كلٍ على طريقته.

المصباح: النور، الكشف، الإضاءة، الوضوح، أما في النص فكان انطفاؤه كل ليلة يعني بدء ارتكاب الجريمة، ومحاولة إخفائها بالظلام، ظلام المصباح وظلام النفوس التي تواطأت على الحرام.

الصمت: الخرس، عدم القدرة على الكلام، الحزن، اليأس، الهزيمة، أما في النص فجاء على عدة صور وأشكال:

1.صمت الفتيات وأمهن في البداية، وهو صمت الانتظار والعوز والاحتياج والوحدة وغياب الأهل والعائلة والجوع للونس.

2.الصمت وقت تلاوة القرآن: صمت الحزن لغياب العائل والخوف مما هو آت، وصمت التقوى في البداية، ثم صمت الاغتراب وغياب السند الروحي الذي يعينهم على مواصلة الطريق.

3.صمت البنت الوسطى: صمت ارتكاب الجريمة واستمرائها.

4. صمت الأم: صمت اكتشاف الحقيقة وربما الرضاء بها مكرهة، لأنه لا شيء في يدها لتغييره، وهي تدرك يقينًا مدى احتياج الفتيات للجنس.

5. صمت الشيخ في النهاية: صمت الخوف من المصارحة وفقدان كل هذا النعيم الذي يعيش فيه.

الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالنص

يقدم النص شريحة من المجتمع، تعرَّضت لظرف اجتماعي متكرر وهو فقدان العائل، وفي ظل تدني المستوى الاقتصادي والتفسخ المجتمعي، لم تستطع الأسرة الصغيرة -التي يبدو أنها مقطوعة من شجرة- أن تواصل المشوار للنهاية بمفردها، إذ لا يستطيع أفرادها الحصول على حقوقهم الأساسية، بالطريقة الشرعية المتعارف عليها، ويومًا بعد يوم يتضاءل أملهم في ذلك، ما يدفعهم لاختيار الزنا، لتلبية ما يطمحون إليه وإن لم يكن كود المجتمع الأخلاقي يسمح به.

لقد تهاوت الأخلاق يوم تعاظمت الحاجات دون إشباع، ويوم أصبح الفرد المهمّش وحده سلطان قانون وجوده، لا يعيّر المجتمع أي اعتبار، ولا يفكّر إلا في ما يعاني منه ولا يجد وسيلة لإشباعه، ودون حتى أن يبرر لنفسه أي شيء، أو يجد نفسه ملزمًا أو مضطرًا لذلك، فإنه يُقدم على ما يرى فيه راحته، فقد سبقه المجتمع في فعل ذلك وتجاهله ولم يُعيّره انتباهًا هو الآخر!

وفي النص تتضافر الظروف الاقتصادية مع موت الأب مع الفقر مع عنوسة البنات مع ضيق المكان وعدم ملاءمته لمعيشة أسرة مكونة من 4 أفراد، لتمهد لبيئة ملائمة تمامًا للسقوط، في ظل خفوت المنظومة القيمية والدينية تحت وطأة الاحتياج.

وقد غابت تفاصيل الفتيات وأمهن، ولم نعرف سوى أنهنّ وحيدات وعازبات، بل إن عدم تسميتهن إشارة إلى تهميشهن وعدم أهميتهن حتى للكاتب نفسه، فما يحتاج إليه منهن ظروفهن الاقتصادية والاجتماعية التي كانت المبرِّر الأول لكل ما حدث بعد ذلك.

حتى الزوج الراحل لم يأت ذكر لوظيفته، فهو أيضًا لا يهم الكاتب بسبب شيوع النموذج في المجتمع المصري خلال هذه الفترة، وعدم اختلافه عن سواه، المهم بالنسبة له الأثر الذي يحدثه غيابه لا تفاصيله.

أما عدم تحديد الزمان فللتعميم والإيحاء بأن هذه القصة يمكن أن تقع في أي زمان، إذا توافرت مبرراتها.

تدور الأحداث بعد عامين من رحيل الزوج، أي إن الانهيار سبقته فترة من التحمل والمقاومة وربما قلّة الحيلة، لكنها لم تكن كافية لكشف الغمّة وإيجاد سبيل نهائية للخلاص من وطأة العوز وسوء الحالة الاقتصادية، خصوصًا مع انعدام وسائل هذا الفرج، فلا جَمال تتمتع به الفتيات، ولا علاقات اجتماعية يمكن أن تمهّد لوقوع تغيير في يوم من الأيام، ولا مال يستندن إليه لجلب زوج، ولا ظروف اجتماعية تتيح للأم الحصول على وظيفة ملائمة تسد احتياجات أسرتها.

وهو ما يشير أيضًا إلى التفسخ الاجتماعي، وتحوّل البشر إلى جزر منعزلة، إذ لا يزور المرأة وفتياتها إلا المقرئ الكفيف، من أجل تقاضي مبلغ تافه من المال، لكن لا جيران، لا أسرة، لا عائلة، لا أقارب من طرف الأم أو الأب، فقد تُركن وحدهن في مهبِّ كل شيء.

وعندما أتيحت الفرصة، لم تتردد لا الفتيات ولا الشيخ في السقوط، فكلاهما باع لحمه للآخر، يستوي في ذلك المبصر والكفيف، والمفارقة أن يكون الشاب مقرئ قرآن، وفي الوقت نفسه يرتكب كبيرة من الكبائر، بتبرير واهٍ مرتعش وغير مقنع له هو نفسه، أي إن الدين بالنسبة له أكل عيش لا موقفًا عقليًا حقيقيًا يساعده على تفسير العالم من حوله والتصدي لكل المشكلات التي يواجهها فيه، فالعمي تحوَّل من عَرض خارجي إلى عَرض داخلي أيضًا، فأصبح أعمى البصر والبصيرة، لكن إن كانت الأولى ضد إرادته، فالثانية بكامل إرادته وتواطئه.

ولعل سقوط النساء في القصة، ليس توقًا إلى الجنس فحسب، إنما إشارة إلى هشاشة وجود المرأة في مجتمعنا بصفة عامة، وعدم تمثيلها فارقا يُذكر في معادلة بناء الحضارة، فهي إن مات زوجها -أو لم تتزوج- تشيَّأت وأصبحت متاعًا، يخضع للهوى والعوز والحاجة، دون أن يكون بيدها من الوسائل ما يُمكِّنها من بناء نفسها مرة أخرى والدفاع عن كينونتها وتحقيق أغراضها وإشباع احتياجاتها، وهنا تبرز قيمة تعليم المرأة وخروجها للعمل، فهي الأسلحة التي ربما تصدّ عنها غائلة المفاجآت وتغيّر الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وترقى بها لتصبح إنسانًا كاملًا مسؤولًا له حقوق وواجبات، يجيد تأدية كليهما، تذكر بمفردها لا مقرونة دائمًا بحاميها والمسؤول عن إعاشتها وإمدادها بسبل البقاء، أبًا أو زوجًا أو ابنًا أو شقيقًا.

وربما يشير سلوك الفتيات وجنوحهن للصمت إثر ارتكاب الخطيئة إلى أن تحقق الغاية لا يكفي لإحساس الإنسان بالاكتمال، لكن طريقة تحقق هذه الغاية، وعلاقتها بباقي القيم في حياته، والوزن النوعي لها في مواجهة باقي خياراته، فقد تَحقَّق حلم من أحلام المرأة وبناتها وهو الإشباع الجنسي، لكن غاب الضحك والونس، ولم يكفل ذلك لهنّ الإرضاء التام الذي كنَّ يتوقّعنه، لأنه لم يكن بالطريقة الطبيعية التي تسير بها الأمور عادة، ولم يكن دون ثمن، فقد تحقَّق من باب خلفي، باب لم يألفنه أو يتصوَّرن وجوده قبل أن يلجنه، ما يشير إلى أهمية الوسيلة التي نتبعها لنوال ما نظن أن فيه خلاصنا أو اكتمالنا، وضرورة أن تتفق هذه الوسيلة مع بنائنا النفسي وقيمنا وقدرتنا على التعامل معها، وإلا ظللنا في المنتصف من كل شيء، نشرب ولا يموت عطشنا، نسير في الطريق ولا نصل، نأكل ولا تشعر معداتنا بالطعام الذي يمر من خلالها، وإن كانت ستواصل مهمتها الميكانيكية في الطحن والهضم وإيصاله إلى باقي أجزاء الجسم!

ومن أسوأ ما يمكن أن يعاني منه إنسان: انهيار الأحلام بمرور الوقت ومعاينة حقائق الحياة، فالفتيات رفضن المقرئ زوجًا في البداية تمسكًا بأمل الحصول على من هو أفضل منه، ثم لم يلبث الزمن أن أعمل سكّينه في هذا الأمل حتى ذبحه، ونزل بسقف توقعاتهن، حتى ارتضين مواقعة المقرئ في الحرام وبالمشاركة أيضًا، لا تختلف في ذلك الكبيرة التي ربما يكون القطار قد فاتها عن الصغيرة التي ربما يكون لديها بعض الوقت لتغيير قدرها، فإلى أي مدى يمكن أن تخذل الإنسان أحلامه ويجبره الواقع على تغيير ما يؤمن به ويدفعه لتقديم تنازلات مهينة ومضنية.

بنية المفارقة في النص

زخّر النص بعديد من المفارقات التي كشفتْ التناقض في النفس الإنسانية وساعدت على تعميق الإحساس باغتراب الشخصيات، فالخاتم، بدلًا من كونه رمزًا للحلال، تحوًّل إلى مرادف للإثم والخطيئة، وتضحية الأم الغريزية، تبدت في اتجاه معاكس للفطرة، فهي رحمة ببناتها رضيت بأن يتجرَّعن كأس الجنس الحرام، لكنها رحمة في الاتجاه المعاكس الذي يقود للسقوط لا الإعانة، والشيخ الذي حسبوه سيكون بوابة لمجيء العرسان وبدء حياة جديدة نظيفة، تحوَّل إلى وسيلة للسقوط وتدمير فكرة الارتباط الشرعي.

لكن مع كل هذا السقوط الأخلاقي، لم يُدن يوسف إدريس المرأة ولا بناتها، إنما أدان المجتمع الذي سمح لكل هذا العِوز أن يخلق هذا النمط الشاذ، والتواطؤ المفجع، الذي أفضى في النهاية إلى تفضيل الصمت والتحجج بالشك الواهي الذي يمكن لكلمة واحدة تبديده لو أراد صاحبها أن يفعل!

وانتهت القصة إلى ما ابتدأت به، في إشارة إلى الدائرة المغلقة التي تحكم الجميع، وعدم وجود وسيلة لكسرها، وتغيير قواعد اللعبة، إنها هزيمة مطلقة لا لأبطال العمل فحسب بل للمجتمع ككل، لكن إلى متى تستمر المنظومة؟ وإلى أي شيء تُفضي مُستقبلًا؟ من بيت واحد بلا أخلاق إلى مجتمع كامل ينتشر فيه التحرش والزنا والطلاق والتسول وكل الموبقات التي يخلفها الصمت والتواطؤ، والتي هي أول مسمار في نعش المجتمع كله!

اقرأ أيضًا: بين الأدب والباليه.. كيف نثمِّن الحياة كما خلقها الله؟