الطريق
الإثنين 29 أبريل 2024 04:41 صـ 20 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

من الجانب الآخر.. كيف رأى الشِعُر العِبْري حربَ أكتوبر المجيدة؟

دائمًا ما يسير الأدبُ جنبًا إلى جنب مع الأحداث الكبرى التي تمرُّ بها الأمم، حتى ليُصبح مرآة لها وانعكاسًا لتحوّلاتها الكبرى وتفاعلاتها المِفصلية، ويمكن من خلاله قراءة التوجّهات والشعور العام الذي سيطر على الشعوب حينها.

ومثَّلت دراسة الأدب الإسرائيلي حجرَ زاوية مهمًا في تحقيق نصر أكتوبر المجيد، إذ اعتمد عليه المصريون المتخصصون في الأدب العبري، لتشريح المجتمع الإسرائيلي واستكناه مواطن قوته وضعفه عبر نتاج أدبائه من شعر وقصة ورواية، فكشفوا أمام القيادة السياسية ما حاول الإسرائيليون إخفاءه باستخدام آلتهم الإعلامية وخداعهم الاستراتيجي.

ثم عاد الأدب العبري ليرافق الهزيمةَ الإسرائيلية ويعبَّر عن حال الإسرائيليين وشعورهم الساحق إثر الهزيمة وانعدام الأمان، ويكشف حجم الصدمة والترويع والفزع الذى أنزلته حرب أكتوبر بهم، وما ترتب عليها فقدان الاتزان، وهو ما نحاول استكشافه من خلال بعض أشعارهم التي نُشرت حينئذ، وتعتبر وثائق تاريخية عما جرى، لنفهم كيف رأى أدباؤهم الحرب والمستقبل، وهل تغيَّرت نظرتهم إلى أنفسهم والعالم وأعادوا تفنيد الأساطير التي كانت قياداتهم تروِّج لها أم لا.

يقول الشاعر "ديدي مانوس"، في قصيدته (بعد أن وُعِي الدرسُ)، المنشورة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 12/11/1973:

أن تتجرأ وتقول الصدق/ فسوف تصل إلى الحقيقة/ والحقيقة أننا بعد حرب الأيام الستة/ ولأسباب مختلفة ومتعددة/ ساد بيننا الشعور/ بأننا لن نعيد ولا حتى شبرًا/ لا اليوم ولا الغد/ ولا حتى يوم القيامة/ وبعد حرب عيد الغفران/ وهذا ما يؤلمنا جميعا/ أصبحنا مصرين/ ألا نكرر أخطاء الماضي/ حتى لا نمنع بزوغ شمس السلام

لقد تركتْ الهزيمة المُذلّة في نفس الشاعر أثرًا أقوى من أن يمنحه أملًا في أن تستعيد إسرائيل ما فقدت يومًا، بل وجعلته -ربما لأوّل مرة- يفكِّر في أن ما ارتكب كان خطأ، ويقفز إلى لسانه مصطلح السلام.

فما حدث في أكتوبر لم يكسر القوة العسكرية الإسرائيلية فقط، لكنه كسر كذلك ثقة الإسرائيليين في تفوقهم العسكري والاستراتيجي، وجعلهم مُجبرين على إعادة تفنيد ما ظنوه مُسلمَّات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، بعد أن وعى الجميع، عسكريين ومدنيين، الدرس جيدًا.

وأصبحت استعادة مشاهد موت الجنود الإسرائيليين، ولحظاتهم الأخيرة، ترد في كثير من القصائد، كأنها نكأٌ للجراح وجلدٌ للذات، وتذكير بما لاقوه في لحظاتهم الأخيرة.

يقول الشاعر الإسرائيلي "إيتان هابير" -الذي أصبح في ما بعد مستشارًا سياسيًا لإسحاق رابين عندما كان رئيسًا للحكومة الإسرائيلية- في قصيدة "بلا عنوان"، التي نشرت في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في أعقاب الحرب:

طريق طويل/ من النقالات والبطاطين الرمادية/ الأفق أحمرٌ بلون الدماء/ من انفجارات القذائف/ وزئير المدافع كالصراخ والعويل/ طريق طويل/ من النقالات والبطاطين الرمادية/ وأحذية سوداء مُطلّة من داخلها/ أحذية قتلى المدرعات والمدفعية والمشاة والمهندسين/ أحذية قتلى المظليين الحمراء/ وأخرى ممزقة للمقاتلين/ أحذية جديدة لجيل لم يعرف معنى الحرب/ وملابس ملطخة بالدماء/ وملابس قتلى الطيارين الرمادية/ بعد أن أسرعوا بسرعة الصوت إلى حتفهم/ ووجوه شاحبة مطلة/ وجوه ضباط كلها رعب/ الضباط الكبار مثل الشباب حديثي التجنيد/ وعيون أطفأتها نيران الحرب/ نقالات وبطاطين رمادية/ ساكنة صامتة هنا/ في مملكة الصمت/ ونحن لا نمك إلا البكاء

لقد هزم الموت الجميع؛ الضباط الكبار والشباب الصغار الذين يختبرون الحرب لأول مرة، ولم يفرِّق بين سلاح وسلاح، الهزيمة كانت كاملة ونهائية، حتى إنها لم تترك لهم إلا البكاء على ما جرى، دون أن يملكوا فعل أي شيء، فأكتوبر لم تكن هزيمة عسكرية لهم وإنما الأهم: نفسية، فقد وضعتهم أمام أنفسهم وأمام قدراتهم الحقيقية وكشفت لهم معدن المصري الحقيقي الذي كان الموت أهون شيء عليه في المعركة، ولم يكن يشغله إلا بقدر ما سوف يعطّله عن استكمال مهمته، وتحقيق مأربه!

وتحوَّل الأمر إلى ما هو أكثر من خسران جولة في الحرب إلى فزع من الفناء، كانت الشائعات داخل إسرائيل تترد وقتها أن السادات سوف يقتحم تل أبيب نفسها، الإسرائيليون يعيشون طوال الوقت في فزع من استئصال شوكتهم وطردهم من الأرض المُحتَلة، وفي أيام أكتوبر المجيدة بدا أن كل شيء يمكن أن يحدث، وكل المخاوف يمكن أن تتحقق على أيدي الوحوش الذين عبروا سد بارليف المنيع في 6 ساعات!

يقول الشاعر "حاييم حيفر" في قصيدة نشرها في جريدة "يديعوت أحرونوت" يوم 9/10/1973:

رجوناك يا إلهي/ ألا تُنزل بنا حربًا ثانية/ رجوناك بأعلى أصواتنا/ رجوناك في همس صلاتنا/ أدركنا من سنوات ثمن الدمار والدم/ وثمن الأعداد المتزايدة لقتلانا/ ورأينا الموت في كوابيسنا/ رأيناه يبني رأس جسر إلينا/ رأيناه يسير بيننا/ رأيناه يهمس بأسمائنا/ رأينا عيون نسائنا وقد انطفأ بريقها/ رجوناك يا رب ألا يحدث كل هذا

لقد أدرك الشعب الإسرائيلي أخيرًا أن الحرب ليست نُزهة، وأن لها ثمنًا باهظًا يتجاوز الواقع إلى الكوابيس التي تطاردهم وتذكّرهم بفداحة ما خسروا، وتترك الفرصة للقتلى للتحديق في وجوههم ليل نهار، حتى رفعوا أكف الضراعة لله ألا يحدث لهم هذا ثانية أبدًا. الإسرائيلي الذي يعيش على ظهر دبابة منذ وطأت قدماه أرض غيره، الآن دهسته الدبابة المصرية وأصبح مستعدًا لاستيعاب معنى الحرب عندما أصبح خاسرًا فيها.

يقول الشاعر "عاموس اتينجر" من قصيدة طويلة نشرت في مجلة "بحمنيه":

قالوا لي مرة عن قذيفة أخيرة/ انفجرت وسكتت/ وعن الصمت الذي ساد الوادي/ وعن طفلة من قرية "حدوت" خرجت/ من المخبأ/ فلم تجد منازل مزرعتها/ من قبل كنا لا نرى القذائف/ ولا نسمعها/ لا بين المنازل/ ولا بين الروابي الخضراء/ والمرتفعات المزدهرة

كان الموت بعيدًا عن أنوفهم، يحدث للآخرين فقط ممن اغتصبوا أرضهم وشرَّدوا أبناءهم، فأصبح قريبًا جدًا، يعكر عليهم سحر المناظر الطبيعية والحياة اليومية، بعد أن ساقه الجندي المصري على سن السونكي حتى غرسه في قلوبهم، ففتح عيونهم على اتساعها لتُبصر قبح ما اقترفوا، وتدرك فاتورة الاعتداء، لكن حيث لا ينفع الندم!

إن حرب أكتوبر المجيدة، نقطة فاصلة في التاريخ الحديث، وفي تغيير المعتقدات الإسرائيلية بشأن قواعد لعبة الحرب والسلام، وفي إثبات جدارة الجندي المصري والقائد المصري، وقدرتهما على قلب الموازين وانتزاع الحق بالحيلة والقوة وقت اللزوم، لذا ليس غريبًا أن تظلّ تحتل صدارة الدراسات العسكرية في كليات الحرب بالعالم أجمع لليوم، ونظلّ نحتفي بها ونذكر مآثرها كل عام، ونستدعي دروسها ونرتشف حكمتها، كي تبقى شعلة في نفوسنا تنير لنا أيامنا وتثبت لنا أن كل ما يلزم لتحقيق الأحلام الكبرى: الإصرار والعزيمة والإيمان بالله وبأنفسنا.

اقرأ أيضًا: بعد 48 عامًا على حرب أكتوبر.. هل يعرف شبابُنا عنها ما يكفي؟

موضوعات متعلقة