الطريق
الخميس 25 أبريل 2024 09:16 مـ 16 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

محمد هلوان يكتب: في يوم الفلسفة العالمي.. العلوم الإنسانية في خطر

محمد هلوان
محمد هلوان

درست الفلسفة ولم أكن اعرفها، ولم تكن لي خلفية عنها من قبل، فقد كنت علمي رياضة في الثانوية العامة، ما وجه ناحيتي العديد من الصعوبات في السنوات الأولى، ما لبث أن يتغير تدريجيا ليأخذ منحنى آخر، فعلى الرغم من كون الفلسفة جانب عقلي إنساني، إلا أن بها جانب عملي يعتبر حجر الأساس في كل العلوم العملية الأخرى، ألا وهي ملكة التفكير المنطقي.

تعلمت في دراساتي السابقة كيفية إعمال العقل والكشف عن المجاهيل والمتغيرات المختلفة عن طريق معادلات رياضية، وضعها علماء عرب وأجانب، ولكنها مع ذلك كانت لي نمط ثابت، فيمكنني حل أغرب المسائل بعدة طرق مختلفة، وكلها تؤدي للمطلوب.

كانت الصدمة الحقيقية في النظريات الإنسانية، وفهم الفكر البشري ونتاجه بصورة أعمق واكثر تحليلاً عما زي قبل، فعلى الرغم من أن العلوم العملية تمرن العقل على حل المشكلات المادية، إلا أنها تجاهلت المشكلات الإنسانية التي هي في رأيي الهم الأكبر والمتغير الأصعب في تلك المعادلة.

فنتاج الفكر الإنساني وقراءته وتحليله ونقده وفهمه بطريقة مجردة صرف لم تستهويني، وكان ارتباطها بعلم النفس هو ما يسيطر على عقلي وبذلك لم يقع من ضمن دارة اهتماماتي وقتها، إلا أنني عرفت أن الفلسفة تدرس التفكير والنتاج العقلي من مختلف الشخصيات والمجتمعات والأعراق والأجناس، على اختلاف أنواعهم ولغاتهم وثقافتهم، بل وأيضاً توجه العقل في البحث في العلل الأولى وفهم نشأة الفكر أو النظرية وتتبع مراحلها حتى العصور الراهنة، وتحليل ما يتبعها من تغيرات مستقبلية قد تطرأ كنتيجة للتقدم والنمو المتزايد للجنس البشري على الأرض، وهو ما يحمل الآن عنوان الدراسات المستقبلية.

الفلسفة علمتني مناهج وطرق البحث، ودراسة العقائد والأديان والملل دون تدخل مني أو من شخصيتي على موضوع البحث ذاته، وعلمتني أيضا تقبل الأخر مهما كان اعتقاده أو انتمائه أو توجهاته وفكره، اكتسبت خبرات في مجالات أخرى إنسانية مثل العمران البشري – علم الاجتماع – ومشتقاته كعلم نفس الاجتماع والاجتماع السياسي وأيضاً علم النفس والتاريخ والجغرافيا وغيرها العديد والعديد.

تعلمت الفلسفة الإسلامية والمسيحية واليهودية والتاوية والكنفشيوسية والبوذية وعقائد المصريين القدماء وقدماء اليونان والرومان والتعرف على أساطيرهم وعقائدهم السرية، بل أخذني الشغف للبحث والقراءة عن حضارات أو مجتمعات لم تظهر بالشكل الكاف حالياً في الدراسات الأكاديمية والشعبية كحضارات وقبائل إفريقيا والمافيا في أمريكا الجنوبية والهنود الحمر في أمريكا الشمالية وغيرهم..

لوحة مدرسة اثينا - للرسام رفائيل

تخصصت في فرع وحيد ولكنه مع ذلك بمثابه محيط لم اكتشف حتى الآن إلا بعض الأصداف على شطه، وزادني معلومات وأفكار وتفاصيل كنت أجهلها أو كنت اعرفها ولكن بصورة غير صحيحة تماماً، وما زلت حتى اليوم أحاول التقدم بخطوات صغيرة نحوه ولكن ما اسمعه خلفي يحزنني ويثبط عزيمتي.

ذلك الحديث هو مشكلة، لا ترتبط بالفلسفة وحدها، بل ترتبط بالعلوم الإنسانية كلها، فهي تُهاجم بشكل شرس ويتم تهميشها من عدة أطراف، فلا أول إنها كل العلم وحدوده، ولكنها الحد الفاصل بين العلم والجهل، وبدون هذا الحد ستتوه الحقائق وستتشتت المعارف والزوائف.

تلك المشكلات لم تظهر كنتيجة للتقدم العلمي، بل لاهتمام الإنسان عمومًا برفاهيته ومتطلباته المادية بشكل اكبر، واعتقد أن المشكلة ستزداد حتى تصل لاختصاصات أخرى كالأدب والتاريخ وعلم النفس وأمثالهما، وتسلسل تلك الأزمة من السهل سرده ولكنه موجود في دراسات متخصصه ومستقلة تنتظر النظر إليها بعين حكيم، يستطيع إخراجها من الرفوف المظلمة وطرحها للجمهور.

لم اقل أن التكنولوجيا أزمة للعلوم الإنسانية، بل هي تساعد بشكل ما على نقل المعارف للجمهور بطرق أسهل واكثر قدرة للاستيعاب، ولكنها مع ذلك يتم تداولها من قبل غير متخصصين، لم يتعلموا منهجيات البحث والنقل والشرح، مما يضر بشكل أو بأخر العقلية العامة، بطرح معلومات منقوصة أو مغلوطة أو غير منقحة، مما يتسبب في أزمات فكرية وثقافية يستحيل معالجتها بشكل دائم.

فلاسفة القرن الـ 19

هناك مشكلات أخرى عدّة تنتاب العلوم الإنسانية، لست بصدد ذكرها كلها، ولكن التصدي لأول مشكلة ومحاولة حلها ولو بشكل معقول قد يتيح فرصة لمناقشة الأزمات الأخرى، ولعل تلك المشكلة في رأيي هي الأكبر وستكون السبب الرئيسي في تحجيم وندرة العلوم الإنسانية بشكل أو بأخر، مما سيتبعه فكر مادي مسيطر على عقلية العوام في تناول الموضوعات الفنية والأدبية والفكرية.. بل وأيضا الدينية!

فهل هناك سبيل ما لمعالجة تلك الأزمة قبل فوات الأون؟ أم لم يحن الوقت بعد واكتشاف أهمية تلك العلوم في الارتقاء بالإنسان وعقله

أقرأ أيضا| محمد هلوان يكتب: منطلقات بناء أسرة حقيقية.. وليست مادية