الطريق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 03:18 مـ 14 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

صالون المستحيل

عمرو عز الدين
عمرو عز الدين

غمرتني التعاسة ذلك الصباح، حين رأيت شعري المنكوش ولحيتي الطويلة في المرآة، إن هذا المنظر هو إشارة واضحة لوجوب زيارة الحلاق. وقد قيل في الأثر إن "دخول صالون الحلاقة مش زي خروجه"، حيث تدخل الصالون بآمال تشارلز ديكنز العظيمة، لتتحطم على مقص ومشط الحلاق، وتخرج من تحت يديه كبؤساء فيكتور هوجو.

يسألك وهو يلف الفوطة كحبل المشنقة حول رقبتك عن رغباتك الأخيرة، تبدأ في إخباره بما تحلم به من قصات شعر وتهذيب لحية، فيسمع منك كل ما تقول بصبر وتفهم ويهز رأسه ويناقشك في ورقتك البحثية بمنتهى الحكمة، ثم يلقي كلامك كله في صفيحة القمامة وينفذ طريقته، فأنت لن تفهم أحسن منه أيها الوغد، والكلمة الأخيرة لمن بيده المقص هنا.

لذلك فإن الاستقرار على حلاق تخرج من تحت يديه بأقل الخسائر هو أمر نادر الحدوث، ربما تدفع ثمنه 3 أو 4 قصّات شعر مختلفة الشكل والمضمون في صالونات متعددة لا تعرف عن الحلاقة إلا قص الشعر كيفما اتفق: "أنت عايز تقص شعرك؟ طب أهو".

الصالون الذي تعودت على التردد ومن ثم الاستقرار عليه، يقع قرب موقف للميكروباصات والتوك توك، ما يعني احتمالات عالية لخروجي من عنده بـ"قصة شعر" تؤهلني للعمل تباعا. إلا أن ذلك الشاب الثلاثيني بدا متفاهما، يحاول قدر الإمكان تنفيذ طلباتي، حتى يصيبه الزهق في منتصف الحلاقة ويبدأ في الارتجال.

في المرة الأولى قال لي وهو يلف الفوطة الحمراء المنقطة بالأزرق والجنجاه:

- تعرف حضرتك أنت شبه مين من المشاهير؟

كنت أعرف الإجابة المتوقعة المتكررة، لكني رددت إليه الكرة بخبث قائلا:

- قول أنت

فالتفت الوغد إلى زميله وقال:

- الباشا شبه مين؟

- حمدي الوزير؟

- الوزير مين بس دقق كده

ثم التفت لزميل آخر:

- الباشا شبه مين؟

وتوالت الردود من زملائه: محمد فؤاد؟ حمدي الميرغني؟ وزيرة التجارة والصناعة الأسبق؟ سفير الكونغو لدى الأمم المتحدة؟ بتاع الديليفري اللي جنبنا؟

كدت أضرب كفا بكف، لقد تحول الأمر إلى قضية رأي عام، والجميع يؤلفون أي إجابة، فقلت لأنهي صراع العروش الدائر من حولي:

- شبه ياسر جلال في مسلسل ظل الرئيس.. أنت مش أول حد يقولي كده.

باغتني قائلا بغلاسة لا مثيل لها: لا مش هو!

بدأ الفار يلعب في عبي، من يقصد إذن؟

وجاء التويست على لسانه بسرعة:

- سليم الأنصاري*

(*: راجع مسلسل كلبش 1 و2 و3 و4.. إيه؟ مفيش 4؟ لما ينزل راجعه)

- أنا؟؟ بالدقن دي؟

- آه ياباشا مشوفتش لما كان مربي دقنه؟

إذن هو يراني أشبه أمير كرارة شخصيا أيام ما كان مربي دقنه، ويظن أن اسمه الحقيقي سليم الأنصاري، حاولت نفي كلامه وإعادة تركيز انتباهه على ياسر جلال مرة أخرى فهذا أوضح، لكنه كان مصرا:

- ياباشا هو سليم الأنصاري.. أهو نفس الشنب.

- طيب ياسيدي المهم تظبطلي الشنب والدقن بمزاج..

- ده أنا هظبطهولك أكتر ما بتحلم..  ده انت شبه الغالي..

بدأت أقتنع أنني سليم الأنصاري طالما أن الأخ هيظبطني، وانتهت الحلاقة هذه المرة بنسبة رضا 65%، وتوالت زياراتي إلى الصالون متقمصا دور الضابط الخارق سليم بالفعل، فأدخل صافعا أول اثنين يقابلاني وأحقق مع ثلاثة زبائن ثم ألقي بخمسة في البوكس، وأجلس بعدها لأنعم بالحلاقة.

المشكلة حين بدأ الحلاق يستقبلني عند دخولي مهللا: اتفضل ياسليم بيه!

فقد ظن زملاؤه الجدد وصبيان المكان أن هذا اسمي فعلا.

كدت أن أصحح له المعلومة، ثم تذكرت تعليمات محسن بيه ممتاز: "يا ليفي.. صالون الحلاقة مكان خطير مليان شَعر، إوعى تكشف عن اسمك الحقيقي أبدا"، وهكذا تركته يناديني بالاسم الحركي، فكل ما يهمني ألا أخرج من عنده بحلاقة مسجلين خطر.

وفي ليلة غاب عنها القمر دخلت لأجد الحلاق غير موجود، سألت عنه فعرفت أنه ترك المكان بعد خلاف مع صاحب الصالون، سقط قلبي بين قدمي وبدأت أسمع أغاني هاني شاكر ومصطفى كامل تتردد في رأسي. ومع شعوري بالضياع وجدت زميله يدعوني لكرسي الحلاقة الذي صار يشبه كرسي الإعدام بالكهرباء، يجذبني بينما أصيح مقاوما: "أرجوك سيبني أعيش"، وما إن جلست أخيرا حتى قال هامسا وهو يتلفت حوله في حذر:

- خالتي بتسلم عليك

- أفندم؟

- بقولك خالتي بتسلم عليك.. يعني متخافش ياسليم بيه قولي تحب تحلق إزاي ومش هتحس بأي فرق..

توارت أغاني هاني شاكر ومصطفى كامل بعيدا، وسمعت بدلا منها نشيد الحلاقين الوطني يتردد في ذهني، لقد ترك الحلاقُ عميلا آخر مكانه يهتم بشعري وشنبي ولحيتي.. هذه ميزة التعامل مع أقوى صالون حلاقة في العالم.

الآن أنعم بحلاقة ترضيني واهتمام عظيم بشنب سليم الأنصاري -الذي ما زلت لا أراه كذلك- ولا يزال اسمي الحركي (سليم بيه) يتردد على كراسي الصالون الذي لن أذكر اسمه حتى لا يكشف أي منكم حقيقتي عندهم، لكنني أطلقت عليه لقبا آخر صار أكثر شهرة من اسمه الحقيقي.. لقب: صالون المستحيل! (قصة حقيقة من ملفات صالونات الحلاقة المصرية).