الطريق
الجمعة 10 مايو 2024 09:24 مـ 2 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

كيف أسمَعَنا الإنسان البدائي صوته من وراء ٤٠ ألف سنة؟

رسومات الكهوف
رسومات الكهوف

لازم الإبداعُ الإنسانَ منذ وطأت قدماه أرض هذا الكوكب، وحتى عندما كان لا يزال بدائيًا، غير مدرك لقوانين الكون، ولا قادرًا على فك أسراره والتعامل معه بندّية، كان مبدعًا، يحاول استغلال كل ما تقع عليه يده ليعبِّر عن نفسه ويترك بصمته وأثره ويقول إنه مرَّ من هنا.

ودلَّت الآثار على أن أول رسوم للإنسان كانت على حوائط الكهوف، وقد أطلق عليها العلماء اسم "فن الكهوف" وهي تلك الرسومات والنقوش التي عُثر عليها في أوروبا وتعود إلى العصر الجليدي، ما بين 40 ألفًا و14 ألف سنة.

وأول ما اكتُشف هو كهف آلتاميرا في إسبانيا عام 1879، وعُثر فيه على رسومات قدَّر العلماء أنها تعود إلى العصر الحجري، والكهف الثاني اكتُشف عام 1940، وهو كهف لاسكو في فرنسا، كما عُثر على رسومات أخرى في عديد من دول العالم مثل ألمانيا وإنجلترا والبرتغال ورومانيا وروسيا والجزائر وفلسطين، وغيرها، أما في مصر فلدينا كهف وادي سنّور في بني سويف، وكهف الجارة في الواحات البحرية.

رسومات الكهوف

المثير أن هذه الكهوف كانت بعيدة عن التجمِّعات السكانية التي يعيشون فيها، ومن الصعب الوصول إليها، ما رجّح أن الفنان تعمَّد هذا كي يحميها فتبقى، وكأنه يريد لصوته أن يظل محفوظًا حتى يصل إلينا، أو أنه كان يعتبرها وسائل سحرية لإبقائه آمنًا وقادرًا على ممارسة الصيد، فاحتاج إلى حمايتها لتستمرّ في تأدية وظيفتها، ولذا وُجد بعض هذه الرسوم مغطى بكتل كثيفة من الأحجار رغبة في إخفائها تمامًا.

وبدأت الفنون البدائية في الأساس لغرض وظيفيّ، أي لخدمة حاجات الإنسان ومساعدته على ترويض بيئته القاسية وتسهيل حصوله على الطعام والهرب من الحيوانات المتوحشة، فعرف الإنسان الأول استعمال الأدوات البدائية من الحجر وفروع الأشجار والعظام والأصداف، وطوَّرها ونسَّقها، وهذا التطوير في حد ذاته عمل فني، كما أن محاولة تزيين هذه الأدوات في ما بعد، عمل فني آخر بديع، جاء بعد استقراره النسبي ومعرفته قوانين بيئته.

وفي مجال الرسم، بدأ الفنان البدائي رحلته برسم خطوط فقط، ثم استخدم اللون لتمييز حدود هذه الخطوط (تقول الآثار إن الإنسان عرف الألوان منذ ما يقرب من 100 ألف سنة)، ثم بدأ ملء الشكل الذي رسمه باللون، وبما أن عمله الأساسي هو الصيد، كان الحيوان موضوعه الأساسي، وراح يرسمه في كل الأوضاع؛ وهو منطلق أو في جماعة أو وهو يصيبه بسهامه، ورسم الثيران والخيل والوعول والأيائل والغزلان والأرانب والفيلة والدببة، وغيرها.

رسومات الكهوف

فهل فعل ذلك احترامًا لهذا الحيوان وخشية منه وتملقًا؟ أم تقديسًا لها واتقاء لشرّه؟ أم إشارة إلى رغبته في صيده والحصول على لحمه للأكل ودمه للتلوين؟ أم إضعافًا له وتشجيعًا لنفسه على صيده وعدم الخوف منه عندما يراه مضرَّجًا في دمه أمامه على جدار الكهف؟ خاصة أن بعض الرسوم وُجدت فيها آثار تجريح بالفعل ناتجة عن أسهم وحراب حقيقية، كأنَّه كان يرميها بالحربة بعد رسمها!

إنه يريد أن يقتل روحها قبل أن يلقاها، أو يُضعفها على أقل تقدير كي لا تنهكه أو تُفلت منه عندما يطاردها، لذا كان أحيانًا ما يمسح رسمة، ويرسم فوقها ثانية، كأن الغرض الأساسي لها قد انتهى، وحان الوقت لرسم غيرها بغرض جديد!

اختلفت الآراء في نواياه، لكنّها اتَّفقت على أن ما تركه إبداع حقيقي ونافذة على ماضٍ جميل رغم قسوته وتحدّياته، كان الفن يتنفس من خلاله ويعبّر عن نفسه.

وكان الفنان البدائي يرسم على الصخور وجدران الكهوف وسقوفها وبيض الحيوانات وقطع الأحجار الصغيرة وغيرها، بوعي مدهش باختلاف طبائع المواد، وكذلك الدرجات اللونية والتدرّجات، وكان يصنع ألوانه بخلط تراب الحديد أو المنجنيز بالماء أو الدم ومساحيق الأحجار، ويستخدم الطين والفحم والدهن الحيواني ونخاع العظام والزلال والبول لتثبيت الألوان بجدران الكهف، ويرسم بأصابعه العارية وريش الطيور وعظام الحيوانات وألياف النباتات.

رسومات الكهوف

ومن ذكائه وقوة ملاحظته أنّه كان يُراعي النِسب بين أجزاء الجسم، والقُرب والبُعد وانعكاسات ذلك على الحجم، وإن اعترضتْ طريقه صخرةٌ بارزة، فإنه يُدخلها في الرسم ويجعلها جزءًا منه، واتَّصفت رسوماته عمومًا بقوة الخطوط ووضوحها الشديد، والواقعية؛ فقد رسم من بيئته ولم يكن للخيال نصيب كبير في مُنتَجه، كما حرص على تمثيل الحركة، فالحيوانات في رسوماته ليست جامدة أو هامدة إنما تبدو في حالة حركة مستمرة ومتكررة وهو ما يتبدّى في الرأس أو الأطراف أو كليهما معًا. بل كان على وعي بالتباين وحريصًا عليه، فإذا رسم مثلًا مجموعة من الحيوانات من الناحية اليسرى فلا بدّ أن تقابلها مجموعة أخرى من اليمين، وإن لم يُبرز التفاصيل واكتفى بحدود الجسم الخارجية ليعِّبر عن فكرته.

واللافت أنه لم يكن بالبراعة نفسها في رسم الإنسان، فالحيوان بالنسبة له كان أكثر أهمية، وربما أخذ كثيرًا من وقته وفكره ما سمح له بالتأمل فيه وإتقان نِسبه الجسمية ومعرفة خصائصه فأتقن تصويره، أو ربما كان تصوير الإنسان محرمًا وفق طقوسهم ومعتقداتهم، فآثروا الاكتفاء برسومات تخطيطية عامة له، لا تحمل أي تفاصيل بارزة أو تجسيد.

رسومات الكهوف

وقد تعلم من الطبيعة الأشكال الهندسية البسيطة، كالنقطة والدائرة والخطوط المنحنية والمموجة والحلزونية والخطوط المتوازية الرأسية والأفقية والمائلة، واستخدمها في عمل تكوينات بسيطة على شكل مثلثات غير سليمة تمامًا أو مربعات ومستطيلات وتراكيب من الخط المنكسر.

لقد كانت رحلة ثرية مليئة بالفن والإلهام والإبداع، غاب أصحابُها ولم يغب فيضُها، وما زلنا كل يوم نتعلم منها كيف يمكن للفن أن يعبر الزمن والتاريخ والجغرافيا، ويظل شاهدًا على عظمة مُبدِعه.

للتواصل مع الكاتب