الطريق
الخميس 16 مايو 2024 08:56 مـ 8 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

السيناريست الكبير ناصر عبد الرحمن يكتب: السمكة الفضية (أ. ب. ج. د)

أ - الشمس وجه جدي حمدان

قوته قوة نخلة بجوار نهر

عاش طفولته وصباه في قريته بالكوامل بحري

بيته وبيت جدوده في حضن جبل مصاخة

كان يعمل حادي جمال في قريته

يقود قافلة من الجمال تحمل الغلة والمؤن بين القري..

اشتهر جدي حادي الجمال لتأثيره المدهش في الجمال وحبه لغناء المواويل الحمراء

يغني للجمال في طريقه بين الجبال

كانت الجمال تدمع عند سماعها صوته

كان يتحدث للجمال والعجيب أنهم كانوا يفهمونه!

سنوات لا يغيبون عنه ولا يغيب عنهم

هكذا عاش يجوب القرى في الصعيد

حتى نزوله إلى القاهرة مع إخوته محمود ومدبولي وحامد وعبد الرحمن

حمدان جدي لأمي..

يوم ترك الصعيد منذ سنوات حزن عليه النخل والشجر والنهر الجاري والجَمل..

وعندما عاد بعد سنين غربة جرى إليه الجمل يستقبله وهو يبكي فرحًا بعودته

يرقص حمدان ويغنّي كلما يحزن أو يفرح

أكرمه الله بدكان في حي الزمالك شارع شجرة الدر، قبل أن يُهدم الدكان ويبنى مكانه مول

يدور جدي أمام ألوان الفاكهة في الدكان

فتُغرم به إنجليزية حتى عشقته

كلما تعود إلى مصر تقف في شوق ترتوي من نظرة حمدان

وتلح عليه ليدور راقصًا أمامها

قبل أن تعود إلى إنجلترا حاولتْ معه كثيرًا ليترك حياته ويقبل حياتها، لكنه رفض وظل يدور في أثناء رحيلها حتى كاد الناس يظنوه قد جُنّ!

ب - بحب الذهاب إلى جدي حمدان

قبل ذهابه للدكان..

يحملني جدي حمدان على كتفيه، يسير بي جوار نهر روض الفرج حتى كوبري أبو العلا.. مسافة العمر الجميل.. يده الضخمة تخفي يدي وجلبابه يخفي عني سيارات الطريق.. لا أرى سوى النيل الذي يكشف لي كنزه الفضة، أضحك وأنا أشير تجاه الكنز الذي يضوي في عيني.. وجدي يحكي لي عن السمكة التي تصاحبه وهو قادم من الكوامل بسوهاج على ظهر صندل النهر..

يجلس جدي على سور الكورنيش ثم يلتفت إليِّ " لك السمكة الفضة علشان لما أموت تبقى تيجي تشوف السمكة"، ما فهمتش حاجة واعتبرت الكلام ده حدوتة زي الحواديت اللي جدي بيكتبها لي كل شوية.. وصلنا لكوبري أبو العلا ووقف كعادته وسط الكوبري عند صباح يكلمها، وأنا آكل السوداني وأُبطئ على فضة النهر وعيني بتدوَّر على السمكة.. المرة دي كانت أجمل مرة خرجت مع جدي.. كان جميل بشوش.. وكانت الناس بتهلّ عليه تسلم وتشد فيه، علشان يقعد معاها. وصلنا الدكان وبدأ جدي يرقص على غير عادته وسط النهار.. صوت الذِكر يحركه.. يدور جدي وسكان الزمالك يتابعونه بشغف.

ج - جدي في المستشفى اليوناني

عيني على أمي

وهي ترتدي طرحتها وينظر إليَّ أبي ولا يدعوني للذهاب معه.. المستشفى بيضاء لون الجنة.. عالية بلا سقف.. الشجر في كل مكان.. وقفت أمام النافورة أنظر إلى الماء، تذكرت سمكة جدي.. جدي يبطئ في تنفّسه.. جلست بجواره.. كان يبتسم لي فقبَّلت يده، لم يحملني على كتفيه كعادته.. بكيت وحدي أمام فضة النهر.. أتذكر جدي وهو يخفي كفي في كفه.. غفوت أمام النهر فخرجت سمكة جدي الفضة تقترب تجاهي كأنها تسير على قدميه فوق النهر، تجمدت كي أتقدم ولا أتراجع.. نظرت في عيني وهي تعزّيني في جدي، وتدعوني لأرى مُلكَه في النهر..

كالمسحور دخلتُ فضة النهر.. على كوبري أبو العلا لم أجد صباح بائعة السوداني، وانقطعت علاقتي العاطفية بالزمالك، لم أذهب إليها إلا غصبًا، كأن مفتاحها مع جدي حمدان..

يحاول أبي إخراجي من حزني بلا جدوى، كنت أهرب من البيت إلى النهر، أجلس بصحبة السمكة الفضة.

د - دون شك لقد تبدل بيت جدي...

كرهته دون جدي.. وعدت إلى حضن أبي أبكي، لم أخرج من غرفتي أيامًا، ويحدثني أبي ويدعوني للذهاب معه، وافقت، وركبت الفيسبا.. كان يومًا شديد الغرابة.. كأن القاهرة تخرج بالكامل، كل شيء يتهشَّم.. يميل التروماي وهو يلفظ الركاب.. وتحرق الدكاكين، الناس تجري، يصرخون.. حجر أصاب رأس أبي، كنت أمسك بجلبابه في خوف وهو يقود الفيسبا على طريق الكورنيش.

ألتفت إلى فضة النهر حيث خرجت السمكة لأعلى تلوِّح لي، لم أستطع مبادلتها التحية، يميل أبي تجاه شارع السبتية والدماء تسقط من رأسه.. صرخت ولم يلتفت أحد.. توقف على ناصية الشارع، الناس تجري والدماء تسقط من رأس أبي.. وضعت يدي فوق جرحه فرأيت عينيه تدعواني للصمت والهدوء، يقول لي (هاترجع البيت، امسك في جلابيتىي واوعى تبص وراك).

في طريقه إلى البيت وعيني تهرب من رؤية تجمّعات الناس وهم يهشمون زجاج السيارات وواجهات مطابع الأهرام ومستشفى الرمل..

يفرد أبى جسمه على السرير.. تضع أمي البنَّ فوق جرحه.. ويعرض التليفزيون مظاهرات 1977، وأمي تركت غرفة أبي لأنام وهو يدعوني لقراءة الفاتحة.. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، ظللت أردّد الفاتحة وأنا فوق الكنبة أحاول النوم حتى سمعت الهدهد يردد الفاتحة من خلف شباكي.

يختفي السندباد من شاشة التليفزيون ليظهر الرئيس السادات، يتحدث عن مظاهرات 1977، ينظر أبي إلى خطبة السادات وهو يلمس الجرح على جبهته.

اقرأ أيضًا: "الله والإنسان”.. كيف ألحد الدكتور مصطفى محمود على سجادة صلاة؟