الطريق
الخميس 9 مايو 2024 02:52 مـ 1 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

محمد شمروخ يكتب الإسترليني والدولار والريال

في بدايات فيلم إسماعيل ياسين "المليونير" الذي تم إنتاجه في سنة ١٩٥٢، كثيرون انتبهوا إلى تلك الجملة العارضة في الحوار بين "عاصم الإسترليني" وشبيهه "جميز" عندما عرف المنولوجست جميز نفسه رداً على عاصم الإسترليني، ساخراً من فقره قائلاً: جميز دولار!.
ولما استفهم منه عاصم، فسر جميز سخريته بأن أجره اليومى الذي يتقاضاه في الكازينو بالعملة المحلية، يوازى "دولار أمريكي" وهو بحساب تلك الأيام، يساوى ما قيمته "ريال" أي عشرين قرشا مصرياً.
ولا أظن أن المؤلف (أبو السعود الأبياري) صاحب قصة الفيلم، كان يقصد بشكلٍ مباشر او غير مباشر، أن يؤرخ اقتصاديا لتلك المرحلة من تاريخ مصر، ولكنه فعل ذلك حقيقة ولو بدون قصد، إذ صار حوار جميز وعاصم، شريحة تاريخية مبسطة تعطى بعض الملامح الاقتصادية والاجتماعية عن الحياة في مصر في تلك الفترة وتصلح أن تكون عينة توضع تحت عدسة ميكروسكوب اقتصادى لتحليلها تحليلا دقيقاً.
لكن مع ذلك ستدخلنا نتائج التحاليل فى حيص بيص سيقف علماء الاقتصاد والخبراء المثمنين أمامها طويلاً قبل أن يصيبهم الملل، ليخرجوا علينا بكلام لن نفهمه لأنهم هم أساساً فشلوا في استيعابه!.
والأمر ليس مجرد مقارنة كنوع من التحسر بين سعر الدولار بالعملة المحلية اليوم، أو في أى عهد تال لفترة الفيلم، لكن هناك أكثر من ملمح أسفرت عنه هذه النكتة الحوارية الجميزية، فلو حسبناها بطريقة ما، لوجدنا أن الدولار هو الذي هبط هبوطاً حاداً وليس الجنيه المصري وحده هو الذي انهار!.
فالدولار اليوم سواء كان بسعر الصرف الرسمي في البنوك والذي لا يقاس عليه عمليا (ما يزيد عن ثلاثين جنيه أو حسب السوق السوداء وهو حوالى خمسين جنيه يزيد أو ينقص قليلاً).. لا يهم.. المهم أن الدولار أو الريال أو العشرين قرشاً في سنة ١٩٥٠، كانت تكفي للحد الأدنى لمعيشة إنسان واحد ليوم واحد، أكل وشرب ولبس وسكن ومواصلات وعلاج، وإن كانت في الحدود الدنيا ولكنها على أى حال تصلح لحياة أرقى من حياة المعدمين بدرجة واحدة على الأقل، لكن الدولار اليوم بأى سعر، رسمي أو سوق سوداء، لم يعد يكفي ليقيم الكفاف في معيشة إنسان واحد لمدة يوم واحد، كما كان يحدث مع جميز!.
أما الجنيه المصري الذي كان يوازى حسب سعر صرف عصر جميز وعاصم خمسة دولارات، فكان لا يكاد يحلم باجتيازه أو حتى باحتيازه، أحد من طبقة جميز، لأنه يعنى أن صاحبه سيعيش معيشة تفوق معيشة جميز بخمسة أضعافها!.
وإذا تتبعنا الأفلام القديمة سنجد الكثير على مثال هذا الحوار بما لا يمكن حصره.
إن هناك تعقيداً في المعادلة الاقتصادية يجعل المقارنة قد تبدو عبثا، إذ أن الجنيه المصري في تلك الفترة ذاتها ولمدة كبيرة بعدها، كان يزيد عن الجنيه الذهب، بخمسة تعريفة، أى خمسة وعشرين مليما، والخمسة تعريفة هذه كانت يومية فلاح مصري يأكل ويشرب ويلبس ويمرض هو وأسرته بها!
لكن بسعر صرف الذهب تصبح يومية جميز تساوى على الأقل خمسة آلاف جنيه مصري الآن أو يزيد، حيث أخبرتنا بورصة الذهب خلال الأسبوع الماضي، أن الجنيه الذهب لامس سعر ٢٦ ألف جنيه، بل زاد عليها بإضافة حساب المصنعية!.
أى أن الحياة في تلك الفترة كانت باهظة التكاليف بحساب الذهب، حيث يعد جميز في عداد الفقراء مع أن دخله حسب الجنيه الذهب، يساوى ٥٢٠٠ جنيه وهو ما لا نحلم به الآن كأجر يومى!.
"ومش بعيد عن ربك الرزاق"
ومع ذلك فجميز يشكو الضنك ويسخر من دخله أمام دخل عاصم الإسترليني وهو المليونير، مع حساب أن الجنيه الإسترليني كان يساوى بالعملة المصرية في ذلك الحين، ٩٧ قرش صاغ فقط لا غير!.
إذن فقد انهار الدولار وكذلك الإسترليني بحساب سعر الذهب!.
أعرف أن الأمر به نوع من العبث ولكن ذلك هو ما تقول به الآلة الحاسبة بأسعار صرف الدولار والإسترلينى بين العهدين!.
أى أن العبث لم يكن من جميز ولا منى، ولكنه من الآلة الحاسبة الصماء التى لا تعرف عملياتها عبثا ولا سخرية!.
لكن العبث والسخرية يتفاقمان إذا ما أدخلنا في المعادلات، الماثلة أمامنا، أسعار السمن والزيت والسكر والبيض والبصل والفراخ والسمك واللحمة على نفس المعايير الدقيقة!.
وحتى تدرك كم هى الأمور عابثة بنفس درجة جدية الآلات الحاسبة ومؤشرات البورصات العالمية وداو جونز وتصنيفات مودز، قارن ما بين معيشة المليونير في ذاك العهد وحتى أربعين عاماً بعدها، وبين معيشة الملياردير الآن، سواء كان مليارديرا بالمصري أو بالإسترلينى أو بالدولار، ففى تلك العهود كان يسمى مليونيرا من يملك مليون جنيه أو أكثر وأحيانا كان يطلق اللقب على صاحب النصف مليون جنيه ويجوز إطلاقه بارتياح على صاحب الربع مليون في الريف وأطراف المدن!.
غير أن صاحب المليار ومضاعفاته فقط، هو من يستحق الآن لقب الملياردير، بينما لا ينال هذا الشرف، من كون ثروة بالنصف أو بالربع مليار، فهو لم يزل في عداد المليونيرات الغلابة!.
لكن صاحب المليار لا يمكن له أن يعيش عيشة مليونير زمان، وملياره هذا لن يكفي الحياة في قصر مثل قصر عاصم الإسترليني ولا أن يكون لديه كل هؤلاء الخدم، حتى من غير سكرة، فلن يكفيه مليار واحد فقط، لكى يصرف على كل هذا "الجرمأ" من العمالة، خدامين وسواق وقصب أفندى وعمال مزارع، مع إضافة فواتير الكهرباء والماء والغاز والزيال!.
.................
..................
الأمر لم يكن قاصراً على بدايات الخمسينات، ففي فيلم "مين فينا الحرامي" بطولة عادل إمام، وهو من إنتاح سنة ١٩٨٤، كان نصف مليون جنيه لم يزل مبلغا مقنعا يصلح مبررا بل ويستحق أن تدار حوله قصة فيلم بحاله، وكذلك كان مبلغ ثلاثة أرباع مليون دولار في مسلسل "أحلام الفتى الطائر" سواء في نسخته الإذاعية الأقدم تحت عنوان "بلدى المحبوب" من بطولة توفيق الدقن وعمر الحريري أو في النسخة التلفزيونية الشهيرة بطولة عادل إمام وعمر الحريري أيضا (اشترك فيه أيضاً الفنان توفيق الدقن بدور ثانوى!!)
هذه الأمثلة جاءت عفو الخاطر ولكن هناك ما لا حصر له من الأفلام والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية والمسرحيات والسهرات وحتى برامج المسابقات كان للمائة وللألف جنبه وكسورهما شنة ورنة!.
بالذمة لو تم إنتاج مسلسل الآن تدور قصته حول مبلغ مليون دولار يعنى خمسين مليون جنيه مصري، ينفع يقنعك بأن يلعب كل هؤلاء الأبطال أدوارهم من أجل هذا المبلغ بالدولار أو بالجنيه.. بسعر البنك أو سوق سودا؟!
"مسموح لك أن تضحك وتبكى معا"!
...............
..................

أعلم أنى أرهقت نفسى وأرهقتك في الحسابات والمقارنات وأنت تحاول ان تستكشف غرضى من كتابة كل هذا في المقال الماثل أمامكم!.
اطمئن ليس لى أغراض بأن أحسرك على ما يسمونه بالزمن الجميل سواء كان جميلا حقيقة أو بالتوهم او بالمقارنة، ولا أقصد -وحياة دى النعمة- أن أوغر صدرك على عهود ماضية أو حالية.
والمصحف الشريف ما قصدى، لكن هى تداعيات حوار في مشهد لفت انتباهي منذ فترة كما تنبه له كثيرون من هواة التحسر على زمن جميز وعاصم!.
فاعلم هداك الله أن جميع الحسابات مهما بلغت دقتها،فهى خادعة، وأن جميع المؤشرات لا تزيد عن معلومات عابثة، لكنها تجرى في سلك منتظم يزداد قتامة بعرضه بواسطة الوجوه العابسة!.
فنحن نعيش ما بين العبث والعبوس، ما بين تجهم عاصم الإسترليني ومسخرة جميز دولار!.
لكن صدقني لو سألتك من هو المعبر الحقيقي عن الشخصية العامة التى تمثل الإنسان المصري ومن هو الطبيعي المعبر عن الشخصية الخاصة بإسماعيل ياسين..
هل هو عاصم أم جميز؟
بالطبع جميز دولار هو الحقيقي في العام أو في الخاص!.