الطريق
السبت 27 أبريل 2024 08:12 صـ 18 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

من أشرف إلى دافي.. حكاية عراف المخابرات المصرية داخل إسرائيل

حرب 6 أكتوبر
حرب 6 أكتوبر

تعم أجواء البهجة والفرح ربوع مصر في هذا اليوم من كل عام، احتفالاً بالانتصار العظيم الذي تحقق في السادس من أكتوبر على إسرائيل، من خلال خطة استراتيجية لا تزال تُدرَس في العالم حتى يومنا الحالي، خاصة دور جهاز المخابرات المصرية في خداع الكيان الإسرائيلي.

عراف المخابرات المصرية

غرق جنرالات إسرائيل في نشوة النصر الذي حققوه في حرب 1967، والتي دفعت عشرات المهاجرين للتوافد على تل أبيب، بعد اعتقادهم بأن النصر حليفهم ولا رجعة فيه، وأنها ستصبح جنة الله في الأرض، كما روجت لها.

بدقة شديدة وعناية بالغة، كان الأمن الإسرائيلي يفحص أوراق الوافدين للتيقن من هوياتهم وجنسياتهم من مختلف دول العالم، وفي تلك الفترة دخل إلى إسرائيل أحد الوافدين، يدعى "دافي كرينهال"، وهو مهاجر سوفييتي، كان نحيل الجسم وضعيف القوة يثير الشفقة بملابسه الرثة وحقيبته البالية، وربما كان هذا السبب لعدم الاهتمام به من قبل الأمن الإسرائيلي.

تسلم كرينهال، أوراق إقامته في إسرائيل، وتم توزيعه مع المهاجرين الجدد الذين لا يمتلكون المهارة أو الخبرة إلى المزارع والمعروفة باسم "الكيبوتز"، حتى يتم توفير فرص عمل مناسبة لهم.

اقرأ أيضًا: ذكرى نصر أكتوبر | ارتباك إسرائيلي من جبهة سوريا وخطة الخداع الإستراتيجي للسادات

3 أشهر.. هي المدة التي استمر "دافي" خلالها في قص حكايته على جميع زملاءه المهاجرين، فهو يهودي سوفيتي، تم اعتقال والده من قبل الحزب الشيوعي، وحينها كان يبلغ من العمر 11 عاما، ولم يرى والده مرة أخرى حتى توفيت والدته، ثم اصطحبه رجل يوغسلافي إلى تركيا، واستقل إحدى السفن القادمة إلى إسرائيل ممنيًا نفسه بأن يحقق أحلامه في (أرض الميعاد) كما يدعون.

نال دافي، تعاطف الكثير من المهاجرين المقيمين معه في "كيبوتز"، خصوصًا أن الضعف وعدم امتلاك المهارة أو الخبرة كان واضحًا عليه، وفي ليلة جلس الشاب "دافي" مع رفاقه ويتحدث مع جارته الفاتنة "راشيل" وأمها العجوز "استير"، وفجأة زاغ بصره وشردت ملامحه وهو يقول بصوت عميق: "لقد أخطأ يارون بلونسكي كثيرا عندما رفض الاعتراف بما فعل، لقد شعر بالخزي والندم وقرر أن يدفع الثمن وسيدفع قريبا!".

وفي اليوم الثاني كانت صدمتهم عندما سمعوا القصة على لسان ذلك المهاجر السوفيتي الذي قص حكايته وأغشي عليه وسط ذهول زملائه، وفي الأسبوع التالي مباشرة تلقت راشيل رسالة من أوروبا وبداخلها شيك بمبلغ ضخم يمكن صرفه من أي بنك فى إسرائيل ويحمل توقيعا كاد قلبها أن يتوقف لرؤيته "يارون بلونسكي"، وعلى ظهر الشيك كانت عبارة "تقبلي اعتذاري" بخط يارون نفسه!".

حكاية راشيل ويارون جعلت كل العاملين في المزرعة مع "دافي" والمزارع المجاورة يظنون أنه عراف، وذات يوم استقبل دافي "ضيفا" يطلب مقابلته، ليخبره أن يستعد للسفر إلى تل أبيب!".

وفي الطريق إلى تل أبيب، تذكر "دافي" كيف بدأت تلك القصة، وفي نفس اللحظة وعلى بعد مئات الأميال من القاهرة، توجه مسؤول الشفرة إلى مكتب رجل المخابرات المعروف باسم "أمجد" ويقول له: "لقد ابتلعوا الطعم.. واستدعوه إلى تل أبيب".

قصة الشاب دافي الذي عُرف فيما بعد بأنه أشرف فؤاد الطحان، الشاب المصري، الذي تخرج والده من كلية الهندسة أملًا منهم فى أن يرفع مستوى عائلتهم الاجتماعي، وحينها التقى بفتاة أوكرانية تدعى "هيلجا بتروفا"، حيث يرتبط الاثنان بقصة حب عنيفة انتهت بالزواج، لكن القدر لم يكتب لفؤاد أن يرى نجله فتوفى قبل أن يراه.

10 أعوام قضاها أشرف في كنف والدته، التي اعتاد أن يراها وهي تنظر إلى صورة والده وتنهار من البكاء، حتى رحلت.

وكان أشرف في الحادية عشرة من عمره، وحينها اصطحبه جده إلى أوكرانيا خلسة، لكن تعلق أشرف بمصر وأسرة والده، أشعره بالحزن، وأخد في النحول والإنطواء حتى تمكن من الهروب والعودة إلى الإسكندرية باحثًا عن منزل أسرة والده، لكن كان وقع الصدمة كبيرا حينما لم يجد أسرته أو المنزل الذى ترعرع فيه.

ظل الشاب أشرف فترة طويلة يتسول لقمته في المساجد، إلى أن تلقفته أيدى المخابرات المصرية، وكان بثياب رثة، تدل على فقر شديد انعكس على صاحبها الذي بدا شاحبا إلى أقصى حد، لكن نظرته العبقرية كانت سلاحا في يد الشاب للتحايل على البسطاء من أجل قوت يومه.

حياة الشاب المصري، دارت فى رأسه قبل وصوله إلى تل أبيب بصحبة المسؤول الإسرائيلي، وبعد ساعة أو يزيد توقفت السيارة أمام مبنى كبير أنيق وطلب مرافقه النزول من السيارة في شيء من الصرامة وقاده إلى الصالة، وبعد دقائق فوجئ بزوجة أحد قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي تستقبله قائلة: "أأنت دافى كرينهال ؟ تماما كما وصفوك".

وفي مساء تلك الليلة تم تهيئة دافي كرينهال لحضور حفل أقامته زوجة الجنرال، بحضور قادة عسكريين وزوجاتهن، لكن المثير في الأمر أن الجنرالات لم يعيروا (دافي) أي انتباه.

حاول دافي لفت الأنظار إليه من خلال الاختلاط بالحضور، حيث جلس وسط زوجات الجنرالات يستمع لأحاديثهم وهم في انتظار أن يلقي بإحدى نبؤاته التي تدرب عليها على يد رجال المخابرات المصرية.  

لحظات مرت على دافي وسط زوجات قادة إسرائيل، لينظر في اتجاه زوجة سكرتير وزير الصناعة قائلا: "قصة ميراث بلغاريا لا أساس لها من الصحة"، وانطلق يخبرها عن الكثير من أحداث ماضيها والذي لا يعلمه أحدا، مختتما بعبارة "لكن زوجك يواجه خطرا كبيرا جدا.. ووسط ذهول الجميع اعترفت زوجة السكرتير بصحة كل ما قاله دافي".

وفي صباح اليوم التالي وصلت إلى النائب العام الاسرائيلى كومة من الملفات والوثائق التي تثبت تورط سكرتير وزير الصناعة الإسرائيلى في وقائع فساد ورشوة واستغلال نفوذ، وكانت فضيحة كبرى فى إسرائيل، وقنبلة انفجرت حول دافي الذي أصبح العراف الرسمي لجنرالات إسرائيل.

تلك النبؤات التي كان يعلم تفاصيلها من المخابرات المصرية التي أمدت دافي بكافة المعلومات التي يستطيع استغلالها بموهبته الفطرية في إلقاء النبوءات بداية من نبوءة راشيل ويارون.

وتوطدت صلة دافي بالجنرالات وكبار المسئولين وتسابقوا في استضافته في منازلهم حتى أنه على مدار 6 سنوات قضاها في إسرائيل من العام 1968 حتى 1973 لم يكن له مسكنا مستقلا.

خدعة خط بارليف

في أحد الأيام، حينما كان يجلس دافي في منزل الجنرال كوهين، سمعه يلقي بنبؤة قائلا: "ستثبت جدارتك حقا في قيادة خط بارليف يا جنرال، ثم تفاجئ الجنرال عندما تلقى تكليف الوزارة له بقيادة الحصون الشمالية في خط بارليف وهنا قام الجنرال كوهين باصطحاب دافي إلى منزله ليقيم هناك في حجرة صغيرة بإقامة شبه دائمة، واعتبره العراف الخاص له".

وذات يوم، فوجئ دافي بأن الجنرال يخبره للاستعداد للسفر في رحلة ترفيهية في نفس اليوم الذي حددته المخابرات المصرية، وعلل ذلك بأن أحد أصدقائه المهمين يمتلك شركة سياحية تدعى ماجي تورز، ويريد أن يستضيف دافي لمدة أسبوع في رحلة إلى قبرص بغرض الدعاية بل وأعطاه 1000 شيكل لينفقها على تلك الرحلة هدية منه.

وسأل دافي الجنرال كوهين عن تفاصيل بشأن خط بارليف، وحينها أخبره الجنرال بأنها معلومات سرية، ثم زاغت عين دافي كعادته في إلقاء النبوءات، حيث انتفضت زوجة الجنرال من مقعدها وهي تسأله عما يعنيه وربط الجميع بين تلك النبوءة وبين سؤاله عن خط بارليف من الداخل.. إذن الجنرال كوهين سيدخل التاريخ بقيادته لخط بارليف، وأقنعت الزوجة الباحثة عن الشهرة زوجها بضرورة أن يصطحب دافي معه إلى داخل خط بارليف.

وكان هذا ما طلبته المخابرات المصرية حرفيًا من دافي وهو محاولة الدخول إلى خط بارليف بأي طريقة!! وفي الموعد المحدد في أوائل مارس 1973، كان العراف المصري جاهزا للذهاب مع الجنرال إلى خط بارليف بتلك السترة الجديدة ذات الأزرار الكبيرة اللامعة، والتي تحتوي على آلة تصوير دقيقة تضم ميكروفيلما خاصا لالتقاط كل الصور الممكنة لخط بارليف من الداخل لكشف تفاصيل أقوى خط دفاعي عسكري عرفه التاريخ.

كما تمكن الجيش من إقامة أحد نقاطه بالحجم الطبيعي ليتدرب عليها رجال الصاعقة والكوماندوز انتظارا للحظة الحسم، واستمر دافى في أداء مهمته من داخل منزل الجنرال كوهين قائد الجبهة الشمالية لخط بارليف حتى أواخر عام 1973م.

وفي أواخر عام 1973، استلم دافي برقية من المخابرات تطلب منه مغادرة إسرائيل فورا، وأعطته رقم تليفون ليتصل به على الفور، وتم تحديد مكان للقاء داخل إسرائيل في نفس الليلة وهناك التقطته سيارة إلى مطار بن جوريون مباشرة ليركب واحدة من طائرات شركة العال الإسرائيلية ضمن فوج سياحي من شركة "ماجي تورز" متجهة إلى روما، وحينها وجد الضابط المصري أمجد في انتظاره ليستقلا طائرة إلى مصر مباشرة.

وفهم دافي السبب من الطلب السريع منه بمغادرة إسرائيل، حيث خافت المخابرات المصرية على عميلها أن ينكشف بعد الحرب عندما يبحث الإسرائيليين عن المصدر الذي سرب كل تلك المعلومات الخطيرة وأثروا إنهاء العملية حفاظا على حياة عميلهم.

وعاد دافي إلى القاهرة باسمه الحقيقي أشرف فؤاد الطحان، ووجد الرعاية من المخابرات المصرية حتى أنهم أعطوه راتبه عن السنوات الـ6، التي أمضاها في إسرائيل وشقة في أرقي أحياء القاهرة وسيارة ووظيفة جديدة، وأعطوه أيضا الجائزة الكبرى.