الطريق
الخميس 28 مارس 2024 08:54 مـ 18 رمضان 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

في صحبة نجيب محفوظ

كان لقاؤنا الأول في مكتبة أمي التي أخبرتني أنها لم تقرأ كافة أعماله، وحين سألتها عن السبب، أجابت بمنتهى التلقائية والبساطة: مفهمتهاش.

بهذه الكلمة المختصرة ساعدتني بعد ذلك بسنوات في حل اللغز، فكثيرا ما وقفت حائرة أمام مواقف من يكرهونه، أتساءل عن الأسباب، فمستحيل أن يكون دافعهم الوحيد كراهية الأدب، قطعا هناك سبب آخر، فكان ما أعلنته أمي، لم يستطيعوا فهمه، وبالفعل من خلال نظرة بسيطة للواقع وقراءة سريعة للتاريخ، نجد أن من لم يستطع تفهم فكرة ما لا يجد سوى طريقين، الأول: محاربة الفكرة كي لا يواجه جهله بها من حين إلى آخر، الثاني: محاولة التعرف على الفكرة، أوالتسليم بأحقية وجودها رغما عنه وعن ميوله وأهوائه، ولكننا للأسف دائما نواجه من يعشقون الطريق الأسهل، الطريق الأول.

ظلت مكتبة أمي عامرة بهذه الأعمال بنسختها القديمة الشهيرة، وبالرغم من ذلك ظللت لسنوات أنهل من المكتبة في شتى الموضوعات ولم أقرب أعمال محفوظ، وكلما نظرت إليها في حذر، رنت في أذني كلمة أمي، كأنني أخاف نفس المصير، حتى بلغت ال 26 من عمري حيث تملكتني فكرة تسيطر على الكثيرين؛ بضرورة القراءة لمحفوظ فقط من أجل تكملة الصورة، حين يسألهم أحد ماذا قرأتم من أدب نجيب محفوظ يجدون الإجابة، تلك الرغبة كانت السبب في تعرفي على روايته الأشهر بين المحبين والكارهين، أولاد حارتنا.

وحين بدأت في قراءتها لم أكملها، وقفت أمام أفكارها عاجزة واكتفيت بتحقيق الهدف الظاهري؛ أنني قرأت لنجيب محفوظ، وبالفعل حين التقيت صديقي الأقرب بعد عام من قراءة غير مكتملة لها، باغتني بالسؤال ماذا قرأتي من أعمال نجيب محفوظ؟! فكانت إجابتي الحماسية السريعة التي دفعته إلى الابتسام والصمت: أولاد حارتنا.

ثم كان اللقاء الثاني من خلال مجموعته القصصية الشهيرة، الجريمة، أهداني إياها صديقي وأوصاني بالتأني والصبر أثناء القراءة، وحين أخبرته أن عقلي يقف عاجزا أمام بعض النقاط، قال: إذا أنت تمشين على الطريق الصحيح. في البداية ظننته يسخر مني، حتى انتهيت منها وجلست أفكر في محتواها لأيام، وإذا بالأفكار تتسابق إلى ذهني في صورة معاني كثيرة، مختلفة لن تجد أقرب منها إلى أمرنا الواقع.

هكذا أدركت أول الدروس التي لقنني إياها أدب نجيب محفوظ، حيث تعلمت أنه يقرأ ويستوعب على مهل، يقرأ مرات، ولا يدعونا للبحث عن معاني بعيدة، بل على العكس تماما، يدعونا لتأمل الواقع، فو يكتب من وإلى واقعنا الإنساني، ويدعوك لأن تصم أذنيك عن كل ما تسمعه عنه بالسلب أوالإيجاب، وتدع قلبك وعقلك يقرأونه بطريقتهم الخاصة، كما فعلت أنا، وطبقت ذلك على كافة قراءاتي، وكذلك فعل كل من أحب محفوظ وتعلق به إنسانيا أكثر من تعلقه بأعماله، التي رفض أن يقف مدافعا عنها، وأعلن صراحة أن الوقت الذي يستغرقه في الدفاع عن عمل أدبي، أولى به أن يستثمر في كتابة عمل جديد، هذه النظرية التي تبدو قمة في العملية هي جوهر العمل الإنساني؛ فإذا أردت أن تنتج شيء أنت مؤمن به فعليك المزيد من العمل دون أن تلتفت.

مهلا هذا الأمر لا يعني أبدا تجاهل محفوظ للنقد والمناقشة الأدبية لأعماله، بل كان مرحب بها في إطارها الذي عرف به لآخر يوم في حياته من خلال مجالسه الأسبوعية الشهيرة التي شهدتها أشهر وأقدم مقاهي القاهرة، حيث كان يلتف حوله القراء والنقاد والكتاب.

كان الدرس الأول هو نقطة انطلاقي لقراءة عالم نجيب محفوظ، ألتهم منه ما أحب دون ترتيب مسبق، وفي كل يوم تتوسع دائرة القراءات ألهث بين الكثير من الأعمال ثم أعود في لهفة إلى أدب محفوظ الذي كان ومازال وسيظل راسخ في الوجدان، وفي كل مرة أجد المزيد من الأفكار التي تنبض بالحياة وتجبرني على الانغماس في الواقع من حولي وداخل نفسي، عن بعض أسباب هذا التعلق وتلك المحبة، دعوني اخبركم في السطور التالية:

السبب الأول: هو البعد عن الجمود، فالتغيير سنة كونية، وسمة أساسية في أدب محفوظ، ولا يعني ذلك أن الأفكار والعادات تنتهي بمرور الزمن وتموت، المقصود هنا أن معناها والهدف منها وطرق استخدامها تتغير من وقت إلى آخر بتغير الظروف، التي إن لم تعيها سوف تنحيك جانبا وتكتفي منك بجانب المتفرج، وقد تجلى هذا المعنى واضحا في أحد مشاهد رواية "السكرية"، حين رفض السيد أحمد عبدالجواد حركة التغيرات الزمنية التي خالفت جمود عاداته وتقاليده، فكانت النتيجة أن يجلس في مشربية منزله ينظر إلى الطريق وإذا بالست أمينة، المرأة التي منعها كثيرا من الحياة تمشي بحرية في الشارع وهو حبيس منزله قد أقعده المرض، أو أجبره الزمن على ذلك بطريقته.


السبب الثاني: حركة التاريخ في أدب نجيب محفوظ، فالتاريخ نصيب واسع من كتاباته، لا يمكن أن يختصر فقط في أعماله التاريخية المعروفة، فقد وجدت الأحداث التاريخية متنفس أوسع من خلال أعماله الروائية، التي دائما ما يبدأها بثورة 1919، وينتهي في فترة التسعينيات، أو يبدأ من فترة تاريخية قديمة وينتهي عند ثورة 1919.

السبب الثالث: أن تجربة محفوظ الشخصية كانت جزء لا يتجزأ من إبداعه، فقد تربى في حواري مصر القديمة وعايش أحداث أعظم ثورات تاريخنا المصري، فحفظها ووثق لأصحابها من عامة الشعب من خلال أعماله.

السبب الرابع: الوقت وتغيرات الزمن، فمحفوظ لايعرف في سرده الروائي أن يقف بك أمام الحقبة التاريخية من خلال الأرقام، بل يجعلك تدرك حركة التاريخ من خلال التغيرات التي تطرأ على حياة الأبطال، وقد شرح هذا الأمر من خلال أحداث رواية الباقي من الزمن، وكأنه يدعوك من خلال هذا العنوان وبعد قراءة الرواية، أن تفكر في ماذا يبقى لك من الزمن؟ الحدث الذي يوثقه التاريخ؟ أم التجربة الإنسانية التي ينطوى بداخلها كل ما حدث مادي كان أومعنوي؟! عليك فقط أن تفكر.

السبب الخامس: القيمة الإنسانية التي يلخصها محفوظ دائما في الصداقة، التي عايشناها من خلال أعماله الروائية، فمن منا لم يقرأ رواية قشتمر ويعشق تلك المقهى وصحبتها التي شهدت الكثير من التغيرات، وبقي المكان شاهد على صداقتهم، من منا لم يتحسر معه ويدرك قيمة ما يملكه من أصدقاء حين صرخ أحد الأبطال قائلا: سيكون أتعسنا من يمتد به العمر بعد رحيل الآخرين.

السبب السادس: عشق محفوظ للمكان، الذي يختصر فيه الجغرافيا والتاريخ، فالمكان رمزية واضحة في أعماله، فهو كناية عن قدرة التاريخ على الصمود، وأن التجربة الإنسانية لا بد أن يبقى منها شيء شاهد عليها، وخير شاهد هو المكان، وقد تجلى ذلك في تمسكه بالحارة المصرية التي كانت مسرح لكافة أعماله، وقد أوضح السبب في مقدمة أولاد حارتنا بقوله: مهلا إنني لا أكتب عن نفسي ولا عن متاعبي، وما أهون متاعبي إذا قيست بمتاعب حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا.

السبب السابع: قدرة محفوظ على أن يجرد أبطاله من الصورة الميلودرامية، بمعنى أن يظل بطل الأحداث منزه عن الخطأ، وإذا وصم بالشر، كان لزاما عليك كراهيته، لكن في أدب محفوظ أنت تحب الإنسان بكافة أوجهه التي تفرضها عليه التجربة، وإذا لم تحبه لا تكرهه بل تخرج من النص الأدبي متفهم لشخصيته حين تستوعب دوافعه حتى وإن لم تؤمن بها، فمن منا لم يحب السيد أحمد عبدالجواد بالرغم من جموده وحدته وأخطائه؟!

السبب الثامن: يعد من أعظم دروس نجيب محفوظ الأدبية والإنسانية حيث علمنا أن الآخرين هم أنت صورة منك ولكن الفرق الوحيد بينكم هو أنك لم تمر بنفس ظروفهم، وكذلك الأمر بالنسبة لهم، ومن هنا يأتي اختلاف شخص كل منا عن الآخر، ومن هنا نتفهم كيف يمكن أن يصبح الخطأ والصواب أشياء نسبية، وكيف يصبح لزاما علينا أن نلتمس الأعذار للآخرين دون الإغراق في المزيد من التفاصيل، وقد تبنى محفوظ هذا المبدأ بالطرح الروائي من خلال رواية حكايات ألف ليلة، حيث ألبس الأبطال كل منهم ثوب الآخر!

السبب التاسع: الضمير القابع في نفوسنا البشرية، ولا يستطيع أبطال أعماله تجاهله مهما أخذتهم مطامع الحياة، يخرج صوت الضمير من جوف العتمة يذكرهم من هم ويعرفهم على قدرهم الحقيقي أمام هذا الكون الشاسع، ولعل شخصية الجبلاوي في رواية أولاد حارتنا خير شاهد على ذلك.

السبب العاشر: الجانب الروحي في أعمال نجيب محفوظ كان دائم الحضور بل طاغي، يمكن للإنسان التواصل مع الله بأي شكل من الأشكال وفي أي وقت دون حواجز والباب الإلهي مفتوح حتى وإن ظن، وخير شاهد على ذلك الأناشيد الأعجمية التي كان ينصت لها عاشور الناجي بطل رواية الحرافيش.

في النهاية مازلت على يقين أن هناك المزيد والمزيد في انتظاري بصحبة أدب نجيب محفوظ، واليوم ونحن نحتفل بذكرى ميلاده العاشر بعد المئة، لم أجد أفضل من كلمات الامتنان التي وصفه الكاتب الراحل «علاء الديب»، في كتابه الشهير عصير الكتب حين توجه له بالشكر في قوله: «للفنان الصافي نجيب محفوظ شكرنا الدائم على هذا النعيم الذي حملنا إليه في قلب رياح الخماسين».
وبالفعل مازال وسيظل طوق نجاتنا وأملنا الوحيد المتجدد في الهرب من ريح الهمجية إلى الصفاء الإنساني.

موضوعات متعلقة