الطريق
السبت 20 أبريل 2024 04:28 مـ 11 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

لماذا تأخر الاحتفاء بالخال ؟

حريصة أنا على متابعة الجوائز الأدبية، أرى فيها فرصة لقراءة لأقلام جديدة، والتعرف على رؤية الكتاب والنقاد المختلفة حول هذه الجوائز التي يشارك البعض منهم في لجان تحكيمها، بالإضافة إلى المناقشات والندوات التي تتصدر المشهد الأدبي في الفترة ما بين الإعلان عن قوائم تلك الجوائز والإعلان عن العمل الفائز، فضلا عن أن عملي في مجال النقد الأدبي يتطلب التعرف على أحدث الأعمال الأدبية، ومهما بلغ نشاطي الذهني واتسعت محصلتي في القراءة لن استطيع الإلمام بكل ما ينتج، لتأتي الجوائز الأدبية العربية والمصرية لتساعدني في ذلك.

تأتي جائزة البوكر العربية على رأس قائمة الجوائز التي أتابع، تبدأ رحلتي معها بمجرد الإعلان عن القائمة الطويلة، اقتني منها الأسماء التي أعرف من الكتاب والموضوعات وفقا لذائقتي الشخصية، لكن بمجرد الإعلان عن القائمة القصيرة أحرص على اقتنائها كاملة، لسببين، الأول: يرجع إلى المهنية لكي أمتلك رؤية خاصة بكل عمل، رؤية تساعدني في الكتابة عنهم، وأبني على أساسها أسباب توقعاتي بفوز أحد هذه الأعمال، السبب الثاني: يرجع إلى شغفي كقارئ وتوقي للمفاجآت التي تحملها روايات القائمة القصيرة كل عام.

تمثلت المفاجأة هذا العام في رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»، للكاتب «محمد النعاس»، الصادرة عن داري مسكيلياني ووشم، والتي توجت بجائزة البوكر العربية بالفعل لهذا العام 2022.

تكمن مفاجأتي هنا في أنني لم أتوقع لها التتويج، وهذاأمر لا يرتبط بالرواية أو صاحبها، فقد أعجبت بالرواية وارتبطت بها وحدثت عنها الأصدقاء، للحد الذي جعل أحدهم حين توجت الرواية بالبوكر يهاتفني كي يناقشني في مضمونها ويسألني عن أسباب فوزها التي سوف أحدثكم عنها لاحقا، لكن في رحلتي مع البوكر أبني توقعاتي بالعمل الفائز وفقا لأفكار شخصية مبنية على خط سير الجائزة منذ أنطلاقها، قد أخطأ فيها أوأصيب؛ أتوقع الفوز لدولة معينة إذا رشح عملين من نفس البلد، أتوقع الفوز لرواية تتناول قضية متصلة بوجداننا كقضية فلسطين، أتوقع الفوز لرواية يتوجها أسم كاتب يحمل على كتفه تاريخ طويل من الكتابة، أتوقع الفوز لرواية تحدثنا عن حقبة تاريخية كنت أجهلها، وهكذا عزيزي القارئ رؤيتي للفوز مجرد توقعات مبنية على أفكار شخصية لا دخل للأعمال المرشحة أوأصحابها بها.

نعم لم أتوقع فوز رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد"، لكنه لم يكن فوز مخيب للآمال بل على العكس كان فوز بطعم الأمل؛ فهي العمل الأول لكاتب ليبي شاب، يطرح ويناقش قضايا هامة، صاحب لغة بسيطة وسليمة جدا، لذلك انتظرت أن يسلط الضوء على شخصية الكاتب «محمد النعاس»، بما يحمله من رؤية في عالم الأدب لكن للأسف لم يحدث ذلك، اقتصر الأمر في البداية على فيلم قصير انتجته اللجنة الإعلامية للجائزة وإجراء حوار معه، وتناقلت المواقع الأدبية والملاحق الثقافية كلمة النعاس أثناء التتويج، واقتصر الأمر على ذلك.

أمر محبط قطعا للكتاب والقراء ممن ينظرون إلى الجوائز نظرة موضوعية كان يجب أن تحقق ما سبق ذكره من فائدة ولكن ما حدث لم يحدث عن عمد، بل كان له أسباب منطقية تنبع من ردود فعل بشرية تلقائية، فالعقل والنفس البشرية بطبيعتهم حين يبنين توقعات محددة تجاه أمر ما ثم يأتي الواقع عكس توقعاتهم يلجأون إما لإعلان اعتراضهم ورفضهم لما حدث وشرح أسباب تحيزهم لعمل محدد، أو الاحتفاء الواسع بالأعمال التي لم تتوج بالجائزة تقديرا لتاريخ وجهد أصحاب تلك الأعمال، أو الصمت لأشهر حتى يفرض الفضول تجاه الجائزة والعمل الفائز نفسه وهذا ما حدث مع الخال ميلاد وصاحبه محمد النعاس.

فقد ألتزم القراء الصمت لأشهر طويلة، ثم بدأ كل منهم قراءة الخال ميلاد بتأني وفي هدوء، وهنا يجب أن أشيد بشخص الكاتب نفسه، ف بالرغم من ما حدث لم يعلن تأففه ولو حتى بفضفضة على مواقع التواصل الاجتماعي، ألتزم الصمت هو الآخر واحترم حرية القراء، وأظن أن هذا السلوك الراقي هو أحد الأسباب التي أثارت فضول القراء وحولت أنظارهم نحوه، بالإضافة إلى دور دار النشر التي أصدرت طبعات خاصة بمصر من الرواية تناسب ميزانية القارئ المصري وسط غلاء أسعار الكتب، والبدء في توزيعها بشكل أوسع عقب التتويج بالجائزة، وأتحدث هنا عن مصر لا تحيز ولكن لأنها متنفس أكبر للكتاب العرب، فكما قالت الكاتبة «بثينة العيسى»، في أحد ندواتها: حلم كل قارئ عربي أن يقرأ في مصر.

وبالفعل منذ أسابيع تحقق حلم النعاس على أرض الواقع وأظنه يشعر الآن أنه قرأ في مصر، فقد خرجت أحد جهات التنسيق للأنشطة الثقافية بمجموعة من حفلات التوقيع بدأت من العاصمة مرورا بالأسكندرية وصولا إلى مدينة المنصورة وأتوقع أن هناك المزيد من الحفلات في انتظاره.

كنت واحدة من القراء الذين انتظروا زيارة النعاس للقاهرة، وحين حضرت أولى هذه الحفلات شعرت أن الانتظار الذي طال لأشهر كان في صالح العمل وصاحبه، فالحضور جميعهم حضروا للتعرف على من كتب شخصيات الرواية، وكل منهم قد قرأها قراءة عميقة عن قناعة، ومن لم يقرأها حضر لشراء الرواية لقراءتها، ولا أقصد بذلك أن حضور الندوات الأدبية الأخرى لا يغلفه هذا الطابع، ولكننا قد نحضر ندوة لأننا قرأنا الكثير من أعمال أحد الكتاب وأخيرا جاءت فرصة للقاءه، ومناقشته في أعمال أخرى، والحديث معه عن أحوال عالم الأدب، أو الاحتفاء بإطلاق عمل جديد له، لكن مع الخال ميلاد اقتصر الحديث عن الكاتب وشخصيات الرواية، والتعرف على رؤيته والاحتفاء به.

كما أن هذا الانتظار انعكس على شخص النعاس بالمزيد من الإيجابية، فانتظاره للقاء القراء جعله أكثر يقظة وحماس ونشاط وروح طويلة للإيجابة على كافة الأسئلة والترحيب بالمزيد بل وتوقعها، أعلم أن هذا أمر يعود لسمات شخصية في الأساس، لكن الانتظار الطويل خلق حالة فريدة من نوعها وصورة حقيقية من التواصل بين القراء وكاتب توج بجائزة عالمية استطاع من خلالها أن يوجه الأنظار مرة أخرى تجاه الأدب اللليبي والمجتمع الليبي الثري بالموضوعات والقضايا التي تشغل العالم العربي بأكمله ويعايشها بشكل يومي.

استطاع النعاس أن ينقلك إلى ليبيا العادات والتقاليد بعيدا عن عالم الصحراء الذي أنعكس على النفوس المتعصبة، وتجول بنا بين القرى والمدن الليبية التي تعيش فوارق مظهرية، لكن المعاناة واحدة، ما يعانيه المواطن الليبي رجل كان أو أمرأة لا يختلف بل يتطابق، وهذا ما رصده من خلال علاقة الخال ميلاد وزينب، وهم حجر أساس مجتمع يأبى أن يجتمعا إلا في الصورة التي تخضع لشروطه.

«زينب» صورة لوطن يتوق إلى الحرية، ولكي تحقق ذلك فهي في حاجة إلى رجل قوي الوعي، لا يكفي أبدا أن يساعدها على تحقيق أحلامها دون أن يعرف قيمة ما تطمح إليه، لكي يساعدها أيضا في الحفاظ عليه.

وهذا ما لم تدركه زينب، حتى تحولت قصة الحب إلى استغلال واستنزاف؛ رجل يلبي الرغبات في مقابل أن يحظى بهذه السيدة القوية الطموحة التي يرى نفسه التي يتمنى فيها، فما تملكه زينب يتمناه ميلاد، وما يمتلكه ميلاد تنتفع به زينب دون أن تقدر قيمته بل تتعالى عليه ولا تعايشه في كثير من الأحيان حتى تحول إلى عبء آخر تحمله على كتفيها!

الخال ميلاد صورة لرجل يعيش بفطرته الإنسانية السوية، لكن المجتمع يغذيه بعادات وتقاليد عدائية، تنعكس بالتبعية على شخصية المرأة في خوفها وممارسة حقها في الحياة في أضيق الحدود، بل في الخفاء، وإذا أعلن الرجل عن دعمه لها، يتهمه المجتمع بالضعف بل وينكر عليه رجولته.

حالة تؤدي إلى نزاع يعيشه ميلاد بين شخصيتين، واحدة تنفذ ما يريده المجتمع والأخرى تتبع ما تحب خلف الأبواب المغلقة، وهذا صراع نفسي يؤدي إلى النتيجة المنطقية الوحيدة، وهي الجريمة التي يدينها المجتمع نفسه فيما بعد!

بعيون ميلاد راوي الأحداث يرصد الكاتب التاريخ الذي يعود لأيام الأحتلال، مرورا بالماضي القريب الذي حكمته الديكتاتورية الغاشمة، وصولا إلى زمن الثورة الذي أشار لها الكاتب بتلك السيدة المثقفة التي جاءت ترصد معاناة المجتمع بنظرة متعالية، خالية من تعايش حقيقي أدى إلى مصير مظلم لم تسلم منه كافة طبقات المجتمع، لتتحول الرواية إلى رؤية متكاملة لتاريخ وحاضر وطن رصده النعاس من خلال سرد روائي فريد من نوعه ساعد في إثارة فضول القراء نحو الأحداث، فقد استخدم أسلوب السرد الدائري الذي يعني أن نقطة بداية الأحداث هي نفسها نقطة النهاية وفي قول آخر مشهد النهاية يستحضر في ذهنك مباشرة مشهد البداية.

وبين نقطة البداية والنهاية وأنت تسمع ميلاد يروي ما حدث سوف تدرك عزيزي القارئ أن الخبز هو فطرتنا الإنسانية التي تتشكل يوميا على طاولة الحياة بأيدي من يحكموننا، من يتحكمون بمصائرنا، بالسياسة، بالعلم، لكن المشكلات الحقيقية تبدأ من هناك خلف الأبواب المغلقة بجمود العادات والتقاليد، من ينكرون على الخال ميلاد رقته، وياليت كل أخوالنا ميلاد ونحن خبز على طاولته.

اقرأ أيضًا: ​​​​​​السيدة الخالدة: هينريتا لاكس وخلايا هيلا العجيبة!