محمد دياب يكتب: قانون المسؤولية الطبية نحو صياغة توازن دقيق بين الأمانة المهنية والعدالة الإنسانية

في مشهد يتسم بالجدل العميق والتأمل الواعى يُطِل قانون المسؤولية الطبية كمشروع وطني طموح ليعيد رسم ملامح العلاقة بين الطبيب والمريض تلك العلاقة التي طالما قامت على الثقة المتبادلة والمسؤولية المشتركة. قدمت الحكومة هذا القانون للبرلمان حيث خضع لدراسة ومناقشة مستفيضة في مجلسي الشيوخ والنواب محاطاً بأسئلة ملحّة تتجاوز النصوص القانونية لتغوص في جوهر العمل الطبي وأبعاده الإنسانية.
لم يكن الطريق نحو الصيغة النهائية ممهّداً إذ أثار القانون جدلاً واسعاً حول بعض مواده وصياغاته. كانت النقاشات أحياناً حادة وأحياناً أخرى هادئة لكنها دائماً مشحونة بروح البحث عن الإنصاف. فهناك من رأى أن القانون قد يحمل قيوداً لا تتماشى مع طبيعة المهنة، بينما طالب آخرون بضمان حقوق المرضى في مواجهة الأخطاء الطبية مهما كانت دوافعها.
وسط هذا المخاض الفكري أعلن رئيس الوزراء بصوت يحمل الثقة والتوافق: "لقد وصلنا إلى صيغة احترمنا فيها رغبة الأطباء". صيغة تبدو كأنها تكتب بشعور من التوازن العادل حيث وُضع الخطأ الطبي تحت عدسة فاحصة تُميز بين الخطأ الجسيم الذي لا يُغتفر والخطأ الذي يقع ضمن البروتوكولات العلاجية وفي ظل التعقيدات اليومية للعمل الطبي.
وأكثر من ذلك جاءت الصيغة النهائية لتلغي شبح الحبس الاحتياطي الذي كان يهدد الأطباء مكتفية بما يكفله قانون العقوبات من نصوص رادعة. كما أُنشئت جهة فنية متخصصة ممثلة في لجنة طبية عليا لتكون الحكم الفاصل في تقييم الخطأ الطبي قبل أن تتخذ الجهات القضائية مسارها. هذه الخطوة لم تكن مجرد تعديل تقنى. بل هي إقرار عميق بأن العدالة تبدأ من الفهم الدقيق لطبيعة المهنة وتحدياتها.
إن هذا القانون بمضامينه الجديدة ليس مجرد وثيقة تشريعية بل هو انعكاس لرؤية وطنية تسعى لردم الفجوة بين التطلعات والواقع. إنه اعتراف بأن الطبيب رغم مكانته كحارس لصحة المجتمع هو إنسان يعمل تحت ضغوط هائلة وأن العدالة ليست فقط في العقاب بل أيضاً في توفير مناخ يتيح له ممارسة دوره بطمأنينة وثقة.
هكذا ينطلق قانون المسؤولية الطبية كجسر يمتد بين الواجب الإنساني للأطباء وحق المرضى في حياة كريمة وآمنة ليصبح علامة فارقة في مسيرة مصر نحو نظام صحي متوازن يقدّر قيمة الحياة وكرامة الإنسان.