الطريق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:40 صـ 10 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

الخائفون

إيمان صبري خفاجة
إيمان صبري خفاجة

منذ اندلاع الثورة السورية في 15 مارس عام 2011، ذهب اهتمام كافة وسائل الإعلام المسموعة منها والمقروءة، إلى توثيق يوميات الثورة، ورصد تطورات الحرب بين الجيش السوري والجماعات الإرهابية.

ثم اتجهت الأنظار إلى أخبار الفارين من نيران تلك الحرب، الذين عرفوا فيما بعد باللاجئين؛ من نجا منهم واستطاع الهرب ومن ضاع بين الأمواج، على الشواطئ وفي الطرق الصحراوية.

كانت وما زالت تلك الصورة على قدر كبير من المصداقية لكنها غير كاملة؛ فماذا عن هؤلاء الذين تمسكوا بأرضهم وظلوا يعانون تحت وطأة الحرب؟!

تنقل الكاتبة ديمة ونوس صورة حية عن هؤلاء من خلال أحداث رواية "الخائفون"، الصادرة عن دار الآداب عام 2017، والتي جاءت ضمن القائمة القصيرة للبوكر عام 2018.

تبدأ أحداث الرواية بين جدران عيادة للتأهيل النفسي، يجتمع فيها مواطنون من طوائف واتجاهات متعددة، كانت تلك العيادة صورة مصغرة من الوطن حين يحاول أبناؤه جمع شتات أنفسهم، وعلاج أرواحهم وسط الحطام رغما عن جنون الحرب، كما كانت رمزا للمكان الذي يربط الأحداث، بالإضافة إلى أنها نقطة التقاء القارئ بأبطال الرواية والتعرف عليهم.

«سليمي»، ابنة مدينة وصمت بأحداث المذبحة الشهيرة، التي اندلعت بين النظام السوري وجماعة الإخوان المسلمين في 2 فبرايرعام 1982، معركة هلك على غرارها المئات من سكان مدينة "حماة"، ولم ينجو منهم سوى عدد قليل، كانت منهم عائلة سليمي، حين قرر والدها الطبيب الفرار من فم ذلك الجنون، هذا القرار أورثه جنون آخر بعقدة ذنب لم تفارقه طيلة حياته، فقد رحل وخلف أهل بلدته دون أن يساعد حتى في علاج جرحاهم، فهل يستطيع أن يداوى أحد غيرهم فى مكان آخر؟!

«نسيم»، طبيب يمتهن الكتابة الروائية تحت اسم مستعارخوفا من ملاحقة الأجهزة الأمنية، شاب ظل يعاني الخوف من الاعتقال ثم الخوف من الموت تحت الأنقاض، الأمر الذي أورثه تصالح مع فكرة الموت لدرجة مرعبة؛ فقد قررأن يكتب نهايات عائلته وأصدقائه، كان هذا الهوس نتيجة حتمية لمعايشة النزاعات الطائفية والحرب، التي لا تؤدي سوى للموت نهاية وحيدة، وحتمية لمن يعاصر هذا الجنون.

لم يكن كل من سليمي ونسيم سوى رمز لجيل ولد وعاش بين أنياب الصراعات السياسية، فكانت قدره الذي لن يستطيع الخلاص منه سوى بإيمانهم بالكتابة لتوثيق الأحداث التي عاصروها، وتحويلها إلى شهادة للتاريخ على الجرائم التي ارتكبت في حق شعبهم، وملاذ للتخلص من أعباء ما يحملونه من هموم.

تجمع بين الأبطال علاقة صداقة، كانت ثمرتها الأولى رواية نسيم الجديدة التي لم يجد لها ذاكرة وذائقة أمينة تحفظها سوى سليمي، وبمجرد أن تبدأ في قراءة فصول الرواية، يدرك القارئ أنه بين حكايتين بأسماء وظروف مختلفة، لكن بمرور الأحداث وفي بعض النقاطيشعر أنهم واحد، فهم نتاج مأساة واحدة، الحرب التي يتعدد ضحايا لكنهم يتشابهون في المصائر في كل زمان ومكان، وقد تجلى هذا الأمر واضحا حين اكتملت تفاصيل الحكايتين من أحداث بعضهم البعض، فتحولت إلى بناء واحد في النهاية.

أراد نسيم أن يعيش بروايته في عالم افتراضي، فإذا بنا أمام الأمر الواقع بعينه، وتلك هي عادة الأدباء يجدون بالقلم ملاذ حقيقي يسمع صرخاتهم حين تشتد القيود على الكلمة المسموعة، كما عبرت الكاتبة من خلال تلك الحالة عن حقيقة جوهر الأدب، فهو ضمير الشعوب وذاكرتهم الباقية إلى الأبد عصية على التشويه والنسيان.

استطاعت الكاتبة من خلال ذكريات الأبطال أن ترصد تاريخ الحياة الاجتماعية في سوريا، وترسم صورة للفوارق الطبقية التي تفرضتها سياسات الحكومات المختلفة، بالإضافة إلى الخلافات المذهبية التي وصل بها حد التطرف إلى التمييز بين السنة والعلويين على سبيل المثال من خلال اللكنة اللغوية لأصحابها، فبمجرد أن يتحدث أحد الطرفين أمام الآخر يتعرض إلى الاضطهاد وتشتعل نيران حرب جديدة.

بالوصول إلى هذا الجزء تقف الكاتبة طويلا أمام معاناة المرأة السورية وافتقادها الدائم للأمان، ورصد أحد مخاوفها من خلال تأكيد سليمي طيلة الأحداث أن حياتها بلا رجل، فهذه الكلمات لم تكن عداء للرجال بل تعبير عن غيابهم الدائم في ظل هذا الجنون، فهم إما تابعين للنظام ويعملون على خدمته غاضين الطرف عن حياتهم العائلية، أو تابعين للجيوش النظامية تغيبهم الحرب، أو ملاحقون من الأجهزة الأمنية ينتظرهم القتل أوالاعتقال، فالغياب مرادف لكلمة رجل في حياة المرأة السورية تحت مظلة الحرب.

بالرغم من أن معاناة الأبطال نابعة من الحروب والخلافات السياسية، لم تقف الكاتبة أمامها بالبحث والشرح وكتابة التفاصيل، بل اكتفت بذكر أسمائها وتاريخها فقط، فمحركات البحث قادرة على إشباع فضول القراء تجاه هذه الأحداث، ما يعني الكاتبة هنا هو معايشة بشاعة تلك الحروب على اختلاف أسبابها من خلال أثرها على نفوس الأبطال، فكم عانت سليمي من قوة ذاكرتها التي تحتفظ بصور الحرب وملامح المفقودين والقتلى، والمقابر الجماعية، وملامح الحضارة التي ضاعت وانهارت بين أنياب وأقدام أطراف النزاع.

بنهاية الأحداث يقف القارئ أمام حقيقة جديدة، أن الحرب تخلق للخوف أكثر من مرادف؛ ففى الحياة العادية نخشى المرض خوفا من الموت وهذا أمر بديهي، لكن في الحرب نخشى المرض لأننا لانملك مشفى للعلاج، نخشى الموت لأن الأجساد تغيب للأبد تحت الأنقاد دون مقابر، ونخشى الضعف ولو للحظات تؤدي بنا إلى رحيل عن أوطاننا دون عودة، لكن يظل الخوف الأكبر هو ذلك القابع في النفوس تغذيه الذكريات، فيعيش صاحبه مترقب لحرب محتملة، وأسير حروب مشتعلة داخل نفسه قد تحوله إلى شرارة حرب جديدة في يوم من الأيام!