الطريق
السبت 27 أبريل 2024 03:47 صـ 18 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

هكذا التقيت د. نبيل فاروق

عمرو عز الدين
عمرو عز الدين

في أسيوط، وبينما أزور أبناء عمومتي طفلا في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، تقع عيناي على صناديق تحت الفراش تحتوي على كتيبات تحمل عناوين مختلفة، فأرى كتيب بعنوان "ملف المستقبل - ليلة الرعب" على غلافه رسم مخيف لمصاص دماء، يتسرب الخوف لنفسي وأسارع بإعادة الكتيب مكانه والابتعاد عن تلك الصناديق نهائيا. ثم أسمعهم فيما بعد يتحدثون بانبهار عن شخص ما اسمه أدهم صبري وكيف صارع أسدا وعاد به محمولا على كتفيه لينقذ حبيبته، فأتخيل أدهم صبري رجلا مغامرا عجوزا شعره كثيف ولحيته تحيط وجهه كالأسد بالضبط.

تدور الأيام، وأعود إلى الإسكندرية التي شهدت مولدي، فأجد نفس هذه الكتيبات عند الباعة في محطة الرمل، يجذبني عنوان "نصف آلي" من لسلسة ملف المستقبل، وعنوان "أجنحة الانتقام" من سلسلة رجل المستحيل. أعود للمنزل وأبدأ في قراءة الكتيب الأول، تبهرني الأحداث وغموضها وجو الخيال العلمي الذي يلفها، وإن كنت لا أفهم علاقة الشخصيات ببعضها وما هي الأيام الخوالي التي يذكرونها كل صفحتين، وينتهي العدد نهاية مثيرة مبتورة مع وعد بلقاء في الجزء الثاني، أما عدد رجل المستحيل يجعلني أتذكر اسم أدهم صبري الذي تردد على مسامعي منذ شهور في أسيوط، لأجده رجلا حليق الوجه شابا، وأبدأ في القراءة فأكتشف أن للقصة جزءا أول، لكنني أقرأ رغم كل شيء لأجده في بداية القصة يهوي من السماء بمظلة لا تنفتح! وتأسرني شخصيته تماما، فأسارع باقتناء الجزء الأول لأراه في بدايته يتحدى رجلا قويا ودستة من حراسه بسخرية وثقة في النفس جعلت أنفاسي تتلاحق انبهارا. ياله من بطل رهيب! إن أدهم صبري هو البطل الذي كنا نحتاجه صغارا، رجل مخابرات مصري جسور يواجه الأعداء دوما وينتصر عليهم بمهارة وذكاء، كان أغلبنا يتمنى أن يكون مثله يوما ما، قدوة لم نجد ما ينافسها، البطل الذي يحب مصر ويكاد يضحي بنفسه من أجلها كل مرة، فينمو بداخلنا الانتماء للوطن وحب البلاد مهما طالتها من أزمات ومِحن وتقلبات.

في كل عدد كان هناك غلاف خلفي يحوي بعض الأسئلة المثيرة الجذابة التي تثير حماسنا لقراءته، وصورة بالأبيض والأسود لرجل مبتسم في وداعة له شارب كث، تحتها اسم د. نبيل فاروق، وهكذا كان اللقاء الأول.

استمرت اللقاءات عبر سلاسل روايات مصرية للجيب، المشروع العملاق الذي التففنا حوله نحن أطفال الثمانينات والتسعينات، والتف حولنا ولم يبخل علينا بالمعلومة والمتعة والفائدة الدائمة. سلاسل حملت أسماء فارس الأندلس، وع×2 وبانوراما وزووم وزهور ومداخلات صغيرة في فلاش، وكوكتيل 2000 حيث هي فعلا كوكتيل من المعرفة والقصص والمقالات والدراسات واختبارات المعلومات، وفي إحدى الأعداد وجدت رقم هاتف أرضي يبدأ بكود القاهرة، يعلن عنه نبيل فاروق بنفسه في باب بريد القراء، تشتعل حماستي وأقرر الاتصال به بلا هدف وأتردد مرة تلو الأخرى، حتى اتغلب على حرجي يوما وأتصل، وبعد ثوان أسمع ردا من صوت رفيع إلى حد ما -عكس ما تخيلت من صورته- أسأله: حضرتك د. نبيل فاروق؟ وحين يرد بالإيجاب، ينعقد لساني رهبة وتتوقف أنفاسي عن التردد لأجزاء من الثانية، تنحبس الكلمات ولا أجد ما أقوله بالفعل سوى سؤال سخيف عن مصير أحد الأبطال، وكانت إجابته بلا فائدة فهو لن يكشف مصير أبطاله لقارئ عابر يتصل به فقط ليسمع صوته! ويظل قلبي ينبض بعنف بعد إنهاء المكالمة، والأدرينالين يصول ويجول في أوردتي وكأنني كنت أصارع جيشا من الأوغاد (حسب تعبيرات د. نبيل الخالدة).

شجعني د. نبيل دون علم منه على الكتابة، وحين بدأت أكتب في بداية التسعينات لم أجد سوى شخصياته لأكتبها، فكتبت أعدادا من رجل المستحيل وفارس الأندلس وملف المستقبل، وأصنع بهم مغامرات أخرى كنت أحسبها مثيرة وقتها، ثم تطور الأمر لرسم أغلفة هذه الأعداد تقليدا لرسوات الفنان العظيم الراحل إسماعيل دياب، الذي جسد عوالم د. نبيل فاروق وأغلب عوالم روايات مصرية للجيب على أغلفتها وداخل صفحاتها، أدهم صبري مرتديا سترته السماوية وربطة العنق البيضاء المخططة بالأحمر، ونور الدين محمود بطل ملف المستقبل بملابسه الرسمية الخضراء المميزة، فارس الأندلس بخوذته وردائه الأبيض المزين بحرملة خضراء، والفرسان والجنود والمومياوات على أغلفة كوكتيل 2000، وغيرها الكثير والكثير.

بعد أعوام التقيت د. نبيل في معرض القاهرة للكتاب شابًا، من خلال ندوات كنت أحد منظميها في إحدى الفترات، ما أتاح لي التعامل مباشرة معه، لأجدني ما زلت أحمل نفس الانبهار والرهبة التي رافقتني خلال مكالمتي الأولى معه طفلا، فأنسى التقاط صورة معه، وأتجمد عند التحدث إليه.

حين أنشر مؤلفاتي الخاصة مع دار نشر "ليلى" ذائعة الصيت في بداية الألفية الجديدة، يجمعني به لقاء في معرض الكتاب وأسمعه يشيد ببعض الأسماء الشابة الجديدة ممن لهم أعمالا منشورة، ويكون اسمي ضمن هذه الأسماء، دون أن يعرف أن الشاب الواقف إلى جواره هو من ذكر اسمه للتو، أتجمد من جديد، أخبره بصوت مبحوح أنه أنا فلان، يبتسم لي ويشجعني ويتمنى لي مزيدا من التوفيق.

كان هو الرفيق والمعلم والشخص الذي يبهرك بمعلومات وأماكن جديدة، فأعرف منه ما معنى الصورة الهولوجرامية المجسمة، قبل أن تصبح على كل لسان حاليا، أعرف منه معنى السافاك والمكتب الخامس والموساد والسي آي إيه، ما الفارق بين العميل والجاسوس والعميل المزدوج، أتجول معه في شوارع روما وباريس ولندن وموسكو وستوكهولم وغيرها وأعرف أسماء مطاراتها الدولية الرئيسية، أسافر معه إلى كل قارات العالم، أعرف معه ما الفارق بين القنبلة الاندماجية والانشطارية، وكيف يمكن السفر عبر الزمن وما علاقة ذلك بسرعة الضوء، وماذا يحدث إن عبرنا الثقب الأسود في الفضاء، وإلى أين نذهب. أسمع منه لأول مرة مصطلح العوالم الموازية والتاريخ البديل. لن أبالغ إذا قلت أن 90% من المعلومات التي عرفتها في صغري جاءت منه، حتى أنني صرت أجمع المعلومات التي يذكرها في هوامش الأعداد داخل كشكول ضخم 300 صفحة، مقسما إياها إلى معلومات علمية وفضائية وجاسوسية وجغرافية.. إلخ، فأي تأثير هذا؟ ومن يمكنه أن يفعل مثله يوما ما؟

كان العدد رقم 100 من سلسلة رجل المستحيل يحمل اسم "الضربة القاصمة" وكان يبدو يوما ما أنه آخر عدد فيها، ولا أجد عنوانا أدق منه ليصف فاجعة رحيل د. نبيل فاروق، التي كانت ضربة قاصمة بالفعل، مفاجئة وغير متوقعة كما كانت مفاجآته داخل قصصه، لم أستوعبها حتى الآن لكنني أدعو الله أن يجعلني وغيري ندرك حجم الفاجعة واستيعابها والصبر عليها، وقبل ذلك أدعو له بالرحمة والمغفرة على أمل أن يجازيه الله خيرا بحق كل معلومة غرسها فينا وكل لحظة أمتعنا خلالها وكل قيمة زرعها في نفوسنا صغارا وكبارا.

رحمك الله يا أستاذي الغالي، ورحمة الله على د. أحمد خالد توفيق والفنان إسماعيل دياب والناشر العظيم حمدي مصطفى الأديب وصاحب المشروع الثقافي الذي صنع انقلابا في عالم الأدب والثقافة ومنح مصر جيلا جديدا من الأدباء نراهم حولنا الآن في كل مكان. نراكم في جنة الخالق.