الطريق
الجمعة 29 مارس 2024 01:54 مـ 19 رمضان 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

مأساة مدام فهمي.. صورة حية للمجتمع المصري

إيمان صبري خفاجة
إيمان صبري خفاجة

بالرغم من أهمية كتب التاريخ التي تزداد بمرور الزمن، ما زال البعض منها يفتقد أسلوب السرد الروائي للأحداث، فتتحول الحكايات التاريخية إلى نصوص جامدة خالية من الروح وكأن من عاشوها لم يكونوا بشر لهم عاداتهم وتقاليدهم التي شكلت الحدث، بالإضافة إلى أن أغلب هذه الكتب تتجاهل ردود أفعال الشعوب صاحبة الفضل في حفظ الحكاية والوقوف على أدق تفاصيلها.

يعد مشروع «حكايات من دفتر الوطن» الذي بدأه الكاتب «صلاح عيسى» عام 1973، ثم أعاد العمل عليه وإصداره مرة أخرى عام 1988 من أهم المشروعات الأدبية التي اهتمت بالحكي الروائي حتى أطلق النقاد على هذه الأعمال أسم "روايات متنكرة".

لم يقتصر اهتمام «عيسى» على الأسلوب الروائي فقط، بل حرص على أن يجمع كافة الوثائق التي تناولت الحكاية، فلا مكان للخيال في هذا الدفتر التاريخي، وهو ما أوضحه بالتفصيل أثناء صدور هذا المشروع في قوله: «هذه الحكايات ليس فيها سطر واحد من الخيال أو عبارة واحدة لا تستند إلى مرجع أو مصدر سواء كان وثيقة أو صحيفة أو مذكرات أو دراسات وأبحاث فهو تاريخ يخضع لكل شروط حرفة التأريخ».

"مأساة مدام فهمي"، واحد من أهم هذه الكتابات، التي حتما سوف يتساءل القراء عن الهدف من رصد أحداث مقتل المليونير المصري "علي كامل فهمي" على يد زوجته الفرنسية "مرجريت ألبير" في 10 يوليو 1923، فماذا تعني تلك الحادثة إلى مجتمع بأكمله في حينها وفي الوقت الحالي؟!

يبدأ الكاتب بسرد الأسباب بالوقوف أمام صورة حية من الكلمات للمجتمع الشرقي والغربي على حد سواء من خلال شعوبهم؛ كان المصريين يحصدون ثمار ثورة 1919 التي تمثل أولى خطواتهم الحقيقية نحو التحرر السياسي والفكري والاجتماعي، في الوقت الذي انقسمت فيه المجتمعات الغربية جراء الحرب العالمية الأولى إلى شعوب لا تشعر سوى بالظلم والكراهية للاستعمار، وشعوب أخرى أورثتهم دولهم الاستعمارية شعور بالذنب تجاه العالم.

ثم ينتقل الكاتب إلى سرد الظروف الاجتماعية التي خرج منها كل من على كامل فهمي، ومرجريت ألبير؛ ليرصد من خلالهم الفوارق البيئية والنفسية التي أدت إلى تلك النهاية المؤلمة، ويتعرف القارئ على أبطال تلك الحادثة التاريخية.

«على كامل فهمي»، شاب يمثل تلكالطبقة الثرية التي ظهرت على سطح المجتمع المصري عام 1856؛ حين قرر "الخديوي إسماعيل" تمليك الملتزمين للأراضي الزراعية، كانت فرصة استغلها البعض على أكمل وجه، فورث أبنائهم ثروة طائلة لا يعلمون عنها شيئا سوى التفنن في إنفاقها.

كما كان فهمي نقيض لشباب ثورة 1919 الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية تحقيق أهدافها، فقد كان ينتمي إلى هؤلاء الذين يواجهون سيطرة الإحتلال على بلادهم العربية بالسيطرة الذكورية على المرأة الغربيةويعتبرون هذا انتصارا!

«مرجريت ألبير»، فتاة فرنسية عاشت طفولتها فريسة لعقدة ذنب أورثتها رغبة واحدة وهدف وحيد، هو أن تعيش على قدر وفير من الرفاهية مهما كانت النتائج والتضحيات المطلوبة التي كان أخطرها زواجها!

لم يكن هذا الزواج بالنسبة للمليونير المصري سوى نزوة ساعده المال على تحقيقها، وبالنسبة للسيدة الفرنسية كان الأمر يمثل الولع الغربي بالشرق والرغبة في الحياة الثرية التي طالما قرأت عنها في حكايات كتاب ألف ليلة وليلة الشهير عن حياة الشرق الثرية، وسرعان ما انكشفت أهداف الزوجين ولم يبقى سوى الخلافات اليومية التي انتهت بدوي مرعب في فضاء العاصمة البريطانية لثلاث رصاصات أودت بحياة الشاب المصري.

حين أذاعت وكالة هافاس خبر مقتل على كامل فهمي، وترجمته الصحف المصرية عن طريق شركة ماركوني، لم يلتفت الرأي العام إلى الحادثة، حتى جاءت مرافعات المحامي الشهير "مارشال هول" الذي تولى الدفاع عن مارجريت ألبير، حين استعان بسلبيات فهمي وعممها على المجتمع المصري في جلسات طويلة تعمدت وكالات الأنباء الغربية ترجمتها لاستفزاز المصريين الذين انفجرت ردود أفعالهم ولم تتوقف لعشر سنوات كاملة.

ردود أفعال مختلفة رصدها الكاتب بدقة على كافة المستويات، ليكشف من خلالها كيف استخدم كل طرف في المجتمع المصري هذه الحادثة لخدمة أهدافه، فقد ذهب البسطاء من الشعب إلى أن سبب الجريمة هو الزواج المختلط، الذي طالما رفضه المجتمع ولم يتجرأ على مناقشته من قبل، وقد دعمت جريدة الأمل هذا الرأي وكتب محرريها يحذرون من خطورة الزواج المختلط على فرص الفتاة المصرية في الزواج.

لم ينهي هذا الجدل سوى دفاع موضوعي من جريدة المقطم، حين كتبت عن أمثلة ناجحة للزواج المختلط، وطالبت الرأي العام بمراجعة عادات وتقاليد الزواج المصري الخاطئة، والعمل على تثقيف الفتاة المصرية ومساعدتها في الحصول على قدر وافر من التعليم.

أما على المستوى السياسي استخدمت القضية في الانتخابات؛ حيث حرض الوفد على عدم انتخاب الذين يتزوجون أجنبيات من الأحرار الدستوريين في انتخابات أول مجلس نيابي بعد ثورة 19 في خريف 1923 ، ولم تنس مجلة الكشكول أن تذكر الوفديين بأن منهم من تزوج أجنبية مثل وزير الخارجية واصف بطرس غالي باشا.

لم يمثل أي من ردود الأفعال المتعددة أهمية على المستوى الدولي سوى الاعتراض الرسمي الوحيد الذي قدمه "مرقص حنا" نقيب المحامين المصريين إلى المدعي العام البريطاني، فقد كان رأيه أكثر انضباطا وأقل مبالغة، مما أدى إلى حصوله على رد من المدعي العام أرفق معه توضيح من المحامي حول حقيقة مرافعته.

بالوصول إلى هذا الجزء يظهر بوضوح دورالصحافة المصرية التي تناولت القضية من كافة الأوجه، ورصدت وجهات النظر المختلفة، كما حرصت بعض الصحف في ذلك الوقت على استقبال آراء الجمهور ونشرها والرد على البعض منها، وقد رصد الكاتب أسماء أهم الصحفيين في ذلك الوقت، وأسماء أهم الصحف المصرية، التي تعتبر من أهم مصادر الكاتب.

كما تظهر أهمية أسلوب سرد الكاتب للأحداث، فقد استخدم تقنية الفلاش باك؛ يكتب الحدث ثم يعود سنوات إلى الخلف لتتبع أسبابه، هذا الأسلوب السردي يليق برواية التاريخ ويحافظ على فضول القارئ بل يزيده ويحثه على المزيد من البحث، بالإضافة إلى الاستعانة بالصور لكل من وردت أسمائهم في الكتاب من فنانين وسياسيين وكل من استشهد بمواقفهم على حد سواء، الأمر الذي أعطى المزيد من المصداقية للكتاب.

لم ينسى الكاتب دورالفن الذي كان ومازال المتنفس الوحيد للشعب المصري لانتقاد ما يثير غضبهم بالسخرية تارة والتوثيق الجاد تارة أخرى، وقد تجلى هذا الدور منذ بداية الحادثة، من خلال شخصية كشكش بيك التي أداها "نجيب الريحاني" على المسرح، سخرية ممن على شاكلة على كامل فهمي، بالإضافة إلى الأغاني وأبيات الشعر التي انتقدت الحادثة من كافة الأوجه.

بطبيعة الحال لم يقف المجتمع الغربي مكتوف الأيدي أمام ردود الفعل المصرية، حيث ذهب البعض منهم إلى تنظيم مظاهرات تؤيد موقف مرجريت ألبير، واعتبارها مدافعة عن حقوق المرأة الغربية التي قتلت الرجل الشرقي لتتخلص من سطوته، ولم يندد بتلك الحملات سوى صحيفة الديلي كرونكل لسان حال حزب الأحرار البريطانيين.

بنهاية صفحات الكتاب يكتشف القارئ أنه كان في جولة بين أروقة حقبة تاريخية هامة، رسمت ملامحها ورويت أحداثها بدقة، كأنه يعيش بينهم، ورصدت الحياة الاجتماعية التي لم تختلف كثيرا عما نعيشه الآن؛ فمازال الناس هم من يعطي للحدث أهميته، حين ينقسم المجتمع ما بين الآراء الجادة والساخرة والموضوعية، بالإضافة إلى أن مضمون هذا الكتاب أبلغ رد على من يدعون أن التعليقات المختلفة والسريعة على الأحداث هي الفرق بين الماضي والحاضر، والحقيقة أن الفرق الوحيد هو سرعة وتعدد وسائل التعبير التي نمتلكها الآن، وأن مأساة الإنسان الحقيقية هي المجتمع حين يحمله فوق طاقته أو يعطيه قدرلا يستحقه.