الطريق
الجمعة 26 أبريل 2024 03:00 صـ 17 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

فلسطين.. نبع من الحكايات لا يجف

إيمان صبري خفاجة
إيمان صبري خفاجة

كانت وما زالت وستظل الكتابة الأدبية أحد أهم أسلحة المقاومة الفلسطينية، فمنذ أن هزمت الجيوش العربية على أبواب فلسطين في 15 مايو عام 1948، أصبحت الكتابة ملاذا حقيقيا للتوثيق عن تاريخ هذه الأرض وبطولات أبنائها، وبالفعل خلال 72 عاما هي عمر النكبة انتجت المئات من الأعمال الروائية، التي تناولت القضية من ثلاثة اتجاهات..

الاتجاه الأول أعاد بناء القرى الفلسطينية التي طهرت عرقيا، فقد رسمت تلك الأقلام ملامحها وحدودها وحفظت الأسماء الحقيقية للشوارع والمدن التي ما زال الكيان الصهيوني يحاول تغييرها أملا في محوها..

الاتجاه الثاني اهتم بالكتابة عن بطولات المقاومة الفلسطينية، ومعاناة اللجوء والتهجير، والتنديد بالمذابح والجرائم التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني يوميا في حق هذا الشعب الفلسطيني العصي على الهزيمة..

في حين ذهب الاتجاه الثالث إلى تناول الواقع الفلسطيني من زاوية قد تبدو أكثر حدة، لكنها لا تخلو من نظرة موضوعية، فقد تناولت الشخصية الفلسطينية من زاويا مختلفة سوف نقف على البعض منها من خلال الأعمال الروائية التالية..

السيدة من تل أبيب

في 5 يونيو عام 1967 كانت نكسة الجيش المصري نكبة ثانية للشعب الفلسطيني حين تم القضاء على آخر أمل في الخلاص من قبضة الإحتلال الإسرائيلي، بل زادت الأمور قتامة، فقد أحكم الصهاينة قبضتهم على الأراضي الفلسطينية بالكامل، وكانت الطامة الكبرى حين حرم الكثيرين من شباب فلسطين الذين خرجوا في تلك الفترة للعمل أو الدراسة خارج فلسطين من العودة إليها لأجل غير مسمى.

يروي لنا الكاتب «ربعي المدهون»، حكاية "وليد دهمان"، الذي استطاع العودة بعد غياب قصري استمر 38 عاما، حين قرر كتابة رواية تدور أحداثها في فلسطين، فإذا به يقف أمام ذاكرته التي ينقصها الكثير عن ملامح البلاد وأهلها فكان قرار العودة.

تبدأ أحداث الرواية بأول خطوات الرحلة حين جمعت الطائرة بينه وبين فتاة إسرائيلية تنتمي إلى هذا الجيل الذي ولد وتربى على أرض فلسطين، فإذا بنا نقف أمام أول أهداف الرواية؛ وهو رؤية القضية من وجهة نظر هذا الجيل، والتعرف على الأكاذيب التاريخية التي تربى عليها، بالإضافة إلى القوانين التي يفرضها التجنيد الإجباري على الإسرائيليين، وكيف تجدد فيهم هذه الإجراءات الرغبة في المزيد من الجرائم وسفك الدماء.

ويمتد الحديث بينهم حتى يمسك بخيوط قصة حب تجمع بين الفتاة وبين أحد أبناء قادة أحزاب المقاومة الفلسطينية، تلك العلاقة تبدو غريبة وخارجة عن المألوف لكنها أمر وارد، يكشف لنا الكاتب من خلالها زيف بعض قادة المقاومة الذين تحولوا إلى تجار قضية فكانوا نكبة أخرى يحملها هذا الوطن على كاهله، ومن خلال حوار امتد طيلة ساعات الرحلة يحاول معنا الكاتب البحث والوقوف على الإجابات القاطعة التي يمكننا من خلالها الرد على أكاذيب الإحتلال المتجددة.

ظن وليد أن صفته المهنية كصحفي وكاتب قد تخفف من حدة الإجراءات التعسفية عند دخول فلسطين، نسي للحظات أن أكثر ما يرعب هذا الكيان الصهيوني الأسماء العربية، الهوية التي تذكرهم بأن هناك عودة إلى هذا الوطن مهما طال الغياب ومهما حاولوا وضع العراقيل.

كانت تلك الإجراءات من أهم نقاط الرواية فقد استطاع الكاتب أن ينقل تلك الحالة للقارئ فيشعر وكأنه يقف معه على أبواب المعابر يعاني ما يعانيه المواطن الفلسطيني يوميا من إهانة، نقل الصورة بالروح التي جعلتني للمرة الأولى أشعر بتلك الحالة النادرة في عالم القراءة؛ فلا استطيع ترك الرواية من يدي للحظة واحدة في انتظار عبور تلك الحواجز اللعينة.

مصائر

يتتبع الكاتب «ربعي المدهون» الزيارة الثانية ل"وليد دهمان" من أجل كتابة رواية أكثر تعمقا في الواقع الفلسطيني اليومي داخل المدن المحتلة، والمدن التي أحكم الإحتلال قبضته عليها تماما، فإذا بنا أمام عدة قضايا متشابكة مازالت محل جدال حتى الآن..

القضية الأولى هي قرية المجدل عسقلان التي طهرت عرقيا بقتل جميع سكانها، وكانت عائلة وليد دهمان من القليلين الذين كتبت لهم النجاة، الأمر الذي دفعه إلى زيارتها والبحث عن بعض معالمها القديمة، الأمر الذي يدفع القارئ إلى محركات البحث للقراءة عن تاريخ هذه القرية والعديد من القرى التي شهدت نفس الجريمة.

القضية الثانية هي عرب 1948، لقب عرف به الفلسطينيين الذين رفضوا التهجير وارتضوا الحياة في منازلهم في مقابل أن يحملوا الجنسية الإسرائيلية، يرصد من خلالهم الكاتب تاريخ الأكاذيب التي أقنعتهم بالبقاء وكيف ينظر إليهم العرب، وحقيقة نظرة الإحتلال لهم، فهم مواطنين درجة ثانية، وصموا بعار الخيانة، لكنهم نموذج موجود على أرض الواقع وتاريخ لا يمكن محوه.

القضية الثالثة هي محارق الهولوكوست وكيف حول الصهاينة معاناة اليهود على يد هتلر إلى حجة لاغتصاب الأراضي الفلسطينية، وكيف عاش البعض منهم أسرى تلك المعاناة، وكيف حولوها إلى تجارة، وكيف يستغلون أكاذيبهم تلك للتغطية على مجازرهم في حق الفلسطينيين، فقد تحولوا إلى أوكسترا تعزف معاناة اليهود على جسد المواطن الفلسطيني كل يوم.

يجمع الكاتب بين العديد من الحكايات التي تصبح خيوط متشابكة ولا يمكن الفصل بينها أو تفضيل واحدة على الأخرى، لا ليبرأ أحد؛ فقد أصر في العديد من النقاط أن الفلسطيني مسؤول مسؤولية كاملة عن تلك الهزيمة وهذا الضياع، لذلك كان لابد من عرض الواقع الفلسطيني بصورته الحالية، لكي يبحث مع القارئ عن حلول، وقد أكد هذا الأمر قائلا: «من عادتي أن أترك النهايات مفتوحة لاعتبارات أساسية؛ أن الواقع نفسه لم يجب على أسئلتنا الكثيرة، فما زالت المشكلة مستمرة وما زال الفلسطينيون يقاتلون ويناضلون من أجل الحصول على حقوقهم، المسألة الأخرى أنني أطرح العديد من الأسئلة فى هذه الرواية، وبالتالي فأنا أرغب أن يشاركني القارئ نفسه فى البحث عن إجابات لهذه الأسئلة».

بينما ينام العالم

اعتدنا من الشخصية الفلسطينية أن تزيدها المعاناة قوة وصلابة، لكن الكاتبة «سوزان أبو الهوى»، خالفت تلك القاعدة وذهبت إلى السلبيات التي يكتسبها المواطن الفلسطيني من نكباته المتتالية، فكانت حكاية "آمال"، الفتاة التي ثارث على مثاليات الأزمة، فهي في أول الأمر وآخره إنسان هش ضعيف تنتهك صحته النفسية وتدمر.

بدأت معاناة آمال في حرب 1967، حين قضت ثلاثة أيام كاملة في حفرة بصحبة فتاة فارقت الحياة، ثم جاءت تلك الطلقات التي مزقت احشائها وشوهت جسدها فقضت على هوية الأنثى بداخلها، ثم كانت هزيمتها الأكبر حين ساقتها الأقدار إلى دور رعاية الأيتام، حتى جاءت خطوة الهجرة خارج البلاد للعمل والدراسة، لتعاني نظرات الازدراء لا التعاطف الأمر الذي يسوقها إلى ضعف إيمانها الديني والنفسي.

ومن خلال زيارة سريعة لفلسطين تلتقيبالعديد من الحكايات التى تعيد إيمانها بالحياة، وبأن الإنسان قادر على أن يمارس حقوقه في الحب وتكوين العائلة تحت أحلك الظروف، ولكن سرعان ما تموت تلك الأحلامالوليدة في مهدها، فتزداد شخصية آمال تشوه واضطراب لم تستطيع حتى الأمومة أن تخرجها منه.

بنهاية الأحداث يكتشف القاريء أن الأبطال لم يفقدوا إيمانهم بوطنهم وبانتمائهم له، والدليل عودة آمال ولحظاتها الأخيرة بين الأنقاض، كل ما هناك أنهم فقدوا عزيمتهم وقوتهم النفسية التي تساعدهم على الاستمرار، فأشد الآلام التي يمكن أن يعانيها الإنسان أن يعيش ويشهد أحبابه يرحلون، فما بالنا حين يكون هذا الرحيل بهذه الصور المؤلمة ثمن لابد أن يرتضيه وينتظره.

وارث الشواهد

يخترق الكاتب «وليد الشرفا»، أسوار سجن الدامون أحد أقوى سجون الإحتلال الإسرائيلي كي نلتقي بصالح بطل أحداث الرواية، الذي كان السجن بمثابة فرصة أخيرة لمراجعة مواقفه السياسية من قضية هذا الوطن، مستخدما تقنية الفلاش باك يعود بنا الكاتب إلى طفولة صالح التي كانت محاصرة بالعديد من الشواهد؛ بين حكايات الجد عن أصولهم التي تعود إلى قرية عين حوض، وحكاية استشهاد والده على يد قوات الإحتلال، بالإضافة إلى بطولات المقاومة التي مازلنا نذكرها حتى الآن، لكن صالح كره تلك الشواهد؛ فكل حكاية تحمل نهاية مأساوية وموت محقق، بالإضافة إلى أنها تذكره بالهزيمة والوقوع في قبضة الإحتلال.

يقرر صالح السفر إلى أحد الدول الأوروبية وتمتد إقامته لسنوات يصبح خلالها أب لطفلة يروي لها يوميا حكايات عن فلسطين وعن قريته عين حوض، ويكررعلى مسامعها البطولات والأحداث التاريخية التي طالما رأى أن الحديث عنها بلا طائل، ليكتشف صالح أنه تحول إلى وارث لتلك الشواهد، الحكايات التي أصبحت جزء من وجدانه.

يضطر صالح العودة إلى فلسطين بصحبة "بشارة"، الطبيب الذي ينتمي إلى عرب 48، ولا يعرف شيئا عن التاريخ القديم سوى حكايات صالح، جاء الكاتب بهذا الصديق لا ليدافع عن موقفه، بل للوقوف على الدوافع التي أدت بهم إلى اختيار هذا الانتماء، وكيف تنظر الأجيال الجديدة منهم إلى هذا الموقف التاريخي.

بمرور الأحداث يقع الصديقين في شباك قضية قضية يقفون على إثرها في محاكمة هزلية أمام قضاة الإحتلال، محاكمة تكشف الوجه القبيح للإحتلال الذي طالما ادعى المحبة والرغبة في تعايش سلمي، هذا التعايش كان الكذبة الي انطلت على الطبيب، فإذا به يفقد وظيفته وينظرون له من زاوية انتماءه العربي فقط، ثم يخرج الطبيب ويسجن صالح الذي تحول إلى حكاية، وشاهد جديد على جرائم الاحتلال.

يتخذ بشارة على عاتقه الحديث عن حكايات صالح وما رواه له عن بطولات الأجداد وتاريخ المناضلين من الكتاب والفنانين، ويبدأ الطبيب في نقل تلك الحكايات إلى أبنائه أملا في أن يكتبوها يوما ما وأن تصيبهم تلك الصحوة التي انتابته.

تنتهي الرواية بمشهد يجمع أحداث التاريخ والحاضر معا؛ فما زال الكيان الصهيوني يقتل ويهجر، ويحاكم من يدافعون عن حقوقهم، لكنه لا يعلم أن هذه الجرائم تثبت أن وجودنا حقيقة، ومع كل شهيد يدفن في الأرض يزداد تشبثنا بها، ويولد طفل جديد يحفظ التاريخ ويشهد على الجريمة، وإذا جاء يوم لم يبقى فيه منا سوى الحكايات وشواهد القبور والمنازل، لا تظنوا أن مصيرها النسيان وأنها بلا ورثة فكل إنسان يدين بدين الإنسانيةهو وارث لتلك الشواهد.