الطريق
الأربعاء 24 أبريل 2024 03:33 مـ 15 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

طالب العلم في زمن التريندات

إذا سألتك الآن..

ما هو التريند الذي يشغل الناس حاليًا؟

ما رأيك فيه؟

وإلى أي نتيجة تتوقع أن تصل تلك القضية؟

وما هو التريند الذي كان قبله، وهل تم البتّ فيه بنتيجة أم تُرِك الموضوع مفتوحًا؟

 

تلك الأسئلة تعكس حال الكثير منا هذه الأيام، فالمعظم يقوم فقط بالحد الأدنى من الواجبات والأعمال اليومية، ويهب باقي وقته لما يسمى بالـ"ماجَرَيات"، والماجريات هي جمع كلمة ما جرى، وتعني مجمل ما يجري من أحداث مهمة، كالاضطرابات السياسية، أو الاجتماعية، أو الحروب وغيرها، أثناء مدة معينة من الزمن، وأفضل ما يعزّز تلك الماجَرَيات حاليا هي الوسائل الشبكية، من وسائل التواصل الاجتماعي، وغرف الدردشة، وألعاب الفيديو، والمواد الإباحية ونحوها.

 

المرء ما يستهلكه

ونحن إذا تأملنا حال شبابنا اليوم سنجده غارقًا في تلك الماجريات، فعلى سبيل المثال، منهم من يصرّ على متابعة الأحداث السياسية، فيقوم بمتابعة كل حدث في أي دولة، ومتابعة التعليقات على هذا الحدث، والتعليق على التعليقات، ولا يكتفي بذلك، بل ينخرط في نقاش داخلي مع أصدقائه في إحدى غرف الدردشة، ليعرضوا آراءهم وتحليلاتهم لهذا الحدث ويبقى في تلك الدوامة التي تعززها له وسائل التواصل الاجتماعي قِس على ذلك أيضًا مَن يهتم بالأحداث الاجتماعية، والترفيهية، وأخبار الفنانين، والرياضة.. إلخ.

ومع ذلك لن يقف أحد لحظة ليسأل نفسه هل الوقت الذي أمضيته في متابعة تلك الأخبار والتريندز كان مثمرًا ومفيدًا أم لا؟ والحقيقة عن تلك الحالة، في أغلب الأحيان، لا ترجع إلى جمال المحتوى وروعته، بل هناك مَن يقوم بذلك كنوع من الهروب من الواقع وتحدياته.

 

 

لنفهم المشكلة

حسنًا لنتطرق إلى السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما الذي يترتب على انكفاء الشاب على هاتفه الذكي، يتابع ويعلّق وينخرط في كل الأحداث والتريندز ولا يسمح أن يفوته شيء؟

ترتب على ذلك أن تدهورت الشهية العلمية لدى هذه الشريحة من الشباب، فيصبح الشاب منهم يستثقل القراءة الجادة والأبحاث العلمية الطويلة، والصبر على الدروس والمحاضرات، ومجالس العلم بوجه عام، فكل تلك الأشياء تصيبه بالملل.

كما أن إدمان المرء على متابعة تلك الوقائع والأحداث والتريندز التي تطرحها البيئة الشبكية، يجعله ينفصل تدريجيًّا عن روح العمل والإنتاج، ويؤدي إلى هبوط العزيمة والدافعية لديه، وإخراجه من دائرة المنتِج إلى دائرة المستهلِك، ومن ثم يصبح لديه ما يسمى بـ"التفكير الأفقي"، أي إدراك القشور الخارجية والغلاف فقط من كل شيء.

كما أن مسلسل تلك الأحداث يسحب المرء تدريجيًّا ويفقده توازنه، ففي حين يظن المرء أنه في قلب عملية التغيير والإصلاح الاجتماعي، يدرك مؤخرًا أن هذا كله وهم، فحالته تلك وصفها سيد قطب بقوله "الاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له فلا تحاول تغييره، فالوعي يكون في صياغة الواقع بالعلم والعمل، وهذا هو مقتدى التوازن.

والمرء في النهاية لا يملك إلا كمية معينة من وقود التفكير؛ لذا لا بد أن يكون حذقًا في صرف هذا الوقود، فلا يصرفه في المهاترات والتفاعلات والأشياء غير المُجدية، التي تستنزف طاقته الذهنية بلا نفع.

 

 

إذن، ما الحل؟

بداية.. أريد أن أنوّه بأن المقصود من هذا المقال ليس الحث على الانقطاع عن متابعة الأحداث والوقائع اليومية بأنواعها، بل التوازن هو جوهر القضية، فكما أنّ جلًّا من المعرفة مطلوب فبعضًا من الجهل لازم، وتحقيق التوازن يتم غالبا عن طريق:

1 - التمييز بين فقه قراءة الواقع والاستغراق فيه دون قراءة

لا ينبغي على طالب العلم، أو صاحب أي هدف أو مشروع أو رسالة في هذه الحياة أن ينقطع كليًّا عن الواقع وأحداثه، فهذا يؤدي إلى مشكلة أخرى، بل يجب أن يكون على دراية بالواقع الذي يعيش فيه، ولكن يكتفي فقط بالجمل العامة من الأحداث والوقائع، ولا يفرق في التفاصيل كثيرًا، فهذا كان حال العلماء المؤثرين على مرّ العصور، فكانوا في غاية القرب والتّماس والمخالفة للناس، ومعرفة احتياجاتهم ونمط تفكيرهم، فلم يكونوا غارقين ولا منعزلين، ومن ثم أثمرت جهودهم، إذن، الفكرة تكمن في "لا إفراط ولا تفريط".

2 - التمييز بين المتابعة المتفرجة والمتابعة المنتجة

احذر دائمًا أن تصبح كائنًا متفرجًا، كثير من الناس تضيع سنوات عمرهم في ملاحقة الأحداث الفكرية والسياسية والترفيهية هذه الأيام.. بشكل يومي، ظنًّا منهم أن هذا جزء من عملية فهم وإصلاح الواقع، ولكن الحقيقة أن المرء يتحول تدريجيًّا إلى متابع سلبي، متفرج فقط، فإذا ضمّك مجلس مع هذا الشخص ستجد أن أفكاره وآراؤه سطحية جدًّا؛ وذلك لأنه يهتم فقط بالقشور، لذا فإن المتابعة بدون هدف واضح هي مضيعة للوقت والجهد، ولكي تعرف إذا كانت متابعتك مثمرة أو لا، لا بد أن يكون لها أثر واضح وملموس على حياتك وحياة مَن حولك.

 

3 - التمييز بين المتابعة زمن التحصيل والمتابعة زمن العطاء

لا بد أن نفرّق بين وقت العطاء ووقت التحصيل، فالشاب الذي في المرحلة الذهبية من عمره، من المفترض أن يكون اهتمامه الأول للتحصيل العلمي وكيفية الاستزادة من المعرفة والتزكية الإيمانية، وأن يكتفي فقط بالمجالات من الواقع وأحداثه، وهذه هي مرحلة التحصيل، وتأتي بعدها مرحلة العطاء، إذ بعد التمكن والتعليم، يبدأ يبثّ وينشر ويشارك رأيه، فيزيد من متابعة الأحداث بما يُحقق أهدافه وأغراضه التي ينشدها.

 

4 - التمييز بين توظيف الآلة والارتهان للآلة

الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي بوجه عام، في النهاية هي مجرد أدوات، من المفترض أن تساعدنا على تحقيق أهدافنا في الحياة، لكن المؤسف أن الكثير بدلًا من أن يوظّفوها لذلك أصبحوا رهائن لها، بمعنى أن الأغلب أصبحوا مجرد متلقّين مستهلكين فقط لما تنتجه الآلة؛ لذا لا بد أن نعود إلى حالة التوازن والوعي، وإلى سلك منحى الإنتاج وليس الاستهلاك والتلقي فقط.

 

 

في النهاية لا يسعني إلا أن أستشهد بتلك الآية الكريمة "فأَمَّا الزَّبَدُ فيَذْهَبُ جُفاءً وأمَّا ما يَنفَعُ النَّاسَ فيَمكُثُ في الأرضِ".. عالمنا هذه الأيام مليء بالكثير من الزَّبد والأمور التي تأخذ حيّزًا كبيرًا وبداخلها فارغ، والتحديات التي تواجه المجتمع الإسلامي الآن هي أضعاف مضاعفة عنها في الماضي، فلن نبالغ إذا قلنا إن كل مجال يحتاج إلى إصلاحات معينة؛ لذا لا بد أن نقف قليلًا ونسأل أنفسنا، أنود أن نكون مثل الملايين الذين أتوا إلى هذه الدنيا متفرجين وغادروا وقد فاتهم شرف الحشر في رتل العلم والإصلاح، ولم تكن لهم بصمات لنجاح يذكر، أم ماذا نريد تحديدا؟

موضوعات متعلقة