الطريق
الجمعة 26 أبريل 2024 03:33 صـ 17 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

ثلاث سويديات في القاهرة.. سيرة ذاتية تتحول إلى تاريخ

إيمان صبري خفاجة
إيمان صبري خفاجة

في الـ 28 من يونيوعام 1875، عرف القضاء المصري المحاكم المختلطة التي تم افتتاحها بأمر من الخديوي إسماعيل، للفصل في قضايا الجاليات الأجنبية التي كانت تعيش في مصر في ذلك الوقت، الأمر الذي ترتب عليه انتداب عدد من القضاة ينتمون إلى دول مختلفة، بثقافات متعددة للعمل في تلك المحاكم، التي استمرت حتى قيام ثورة يوليوعام 1952.

شهدت ساحات تلك المحاكم صرخات العديد من المصريين ضد ظلم البعض من الجاليات الأجنبية، لكنها لم تنصف أي منهم بطبيعة الأمر، وكانت أحد أهم التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر في عهد الخديوي إسماعيل، فتغيرت معها خارطة حياة هذا الوطن إلى الأبد.

كان هذا الحدث التاريخي نقطة انطلاق أحداث رواية «ثلاث سويديات في القاهرة»، للكاتبة«آن إيديلستام»، الصادرة عن الدارالمصرية اللبنانية عام 2016، بقلم المترجمة«مروة إبراهيم آدم»، التي تسوف تشعر معها أنك تقرأ النص بلغته الأصلية.

ينتمي هذا العمل الأدبي إلى الروايات التاريخية، فالرواية تقدم رحلة في تاريخ مصر الحديث من عام 1927 حتى عام 2011، من خلاليوميات ثلاث سيدات ينتمين إلى أسرة واحدة عرفوا القاهرة وكانت شاهدة على حياتهم، ومن هنا يتضح للقارئ سبب اختيار الكاتبة لعنوان الرواية، كما كانت تلك نقطة الانطلاق للتعريف بأبطال الرواية.

«هيلدا»، السيدة الأولى التي جاءت إلى مصر بصحبة زوجها القاضي«طورشتين سالين»، ليبدأ عمله في المحاكم المختلطة عام 1927، ومن خلال اليوميات التي شرعت في كتابتها منذ اليوم الأول لها على أرض هذا البلد، تسلط الكاتبة الضوء على معاناة هيلدا في التعايش ومحاولة الخروج والتصرف بالحرية والتلقائية التي عرفتها دون قيود في السويد وطنها الأم، فهناك مساحة شاسعة بينها وبين مجتمع شرقي لا يعترف بأي حق للمرأة في ذلك الوقت سوى المأكل والملبس، ولا يعرف الخجل حين يحرمها حقوقها في التعليم والصحة تحت شعار العادات والتقاليد التي لا ينص عليها قانون ولم يأتي بها دين، وما هي في حقيقة الأمر إلا اضطرابات اجتماعية يداري بها المجتمع تأخره، وتراجع حكوماته.

ثم يشاء القدر أن تعاصرهذه السيدة حركة تحرير المرأة، وتشارك في المطالبة بالمساواة والتحررمن قيود المجتمع الوضعية، من خلال صداقة وطيدة بالسيدة هدى شعراوي، تلك المحاولات التي استقبلت بالرفض والهجوم حتى فرضت وجودها في نهاية الأمر، وفي هذا الجزء تقف الكاتبة طويلا أمام حقبة تاريخية هامة كانت أحداثها ويومياتها فاصلة في تاريخ المرأة والثقافة المصرية.

كما كان ليوميات «هيلدا»، جانبا مضيئا آخر وهو معايشة رحابة المجتمع المصري في ذلك الوقت، كيف استطاع هذا المجتمع بالرغم من ضعف فرص التعليم أن يتمتع بالسماحة الدينية؟ ويتعايش مع هذا الكم المختلف من الثقافات التي ظلت لسنوات جزء منه؟

كانت مصر تمثل صورة حقيقية للتعايش الإنساني، بعيدا عن تعنت الحكومات وظلم الاحتلال، كيف استطاع هذا الشعب أن يعيش بعيدا عن فكرة التطرف بالرغم من حرمانه أهم وأبسط حقوق الحياةكالتعليم والصحة، التي اقتصرت لسنوات طويلة على العائلة المالكة، والقضاء، والأثرياء أصحاب الامتيازات، في حين ظل المصريين مسلوبي الحقوق والإرادة، فيما عدا إرادة التعايش، وفطرتهم الإنسانية السمحة؟!

ثم جاءت أحداث الحرب العالمية الثانية، التي أثقلت كاهل الشعوب، وأثارت جنون العالم، ولم يدفع ثمنها سوى دول العالم الثالث التي كانت خاضعة للاحتلال ومنها مصر التي شهدت قدوم المزيد من الجاليات، وحرمان مستمر، ومتزايد من أبسط حقوق الحياة.

تلك الحقبة المظلمة سجلت أحداثها «إنجريد»، السيدة الثانية، ابنة هيلدا والقاضي، والتي عاصرت في شبابها تلك الأحداث التي غيرت خريطة العالم الاجتماعية والسياسية إلى الأبد، ومن خلال يومياتها تعقد الكاتبة مقارنة تلقائية بين ما عايشه الوالدين وما تشهده الابنة، وكيف يتغير المجتمع بل العالم بين ليلة وضحاها، فتتغير مصائر الشعوب دون إرادة منهم؟

وبمرور الأحداث تتحول كلمات «إنجريد»، إلى عيون للقارئ يشهد من خلالها حقبة هامة من تاريخ العالم بصفة عامة ومصر خاصة بدأت منذ عام 1939 حتى عام 1952 ذلك العام الذي يشهد رحيل عائلتها الإجباري عن مصر!

من خلال الحزن الذي يعتري عائلة القاضي تضع الكاتبة أمامنا قضية شائكة، عن الانتماء وحق المواطنة، فما هو المعنى الحقيقي للوطن؟ أهو تلك الأرض التي تنسب إليها بالوراثة ولم تشهدها عينيك يوما ما؟ إذا كانت الإجابة بنعم قاطعة، فهي حتما إجابة ظالمة فالانتماء الصادق والحقيقي لا يعرف أبدا بالتبعية، وإذا جاءت الإجابة ب لا فهي تحمل كم كبير من الموضوعية، فماذا تعني المواطنة سوى المعايشة والتسامح والتقبل، والصداقات التي تعرفها على أرض هذا الوطن؟

فقد انتمى الكثيرين لمصر بكامل إرادتهم، وكذلك تكررت التجربة في بقاع أخرى من العالم، كان وطن اختاروا الحياة بين أحضانه، تحت لواء حكوماته، ثم تأتي حكومة ما لاعتبارات سياسية تضرب بتلك الحقوق عرض الحائط، هي قطعا حكومات ظالمة، وتلك مأساة عاشها الكثيرين، كانت الصورة الأولى التي عرفنا من خلالها معنى كلمة تهجير.

بالرغم من ذلك الرحيل ظلت علاقة «إنجريد»، بمصر قائمة من خلال رسائلها المتبادلة بينها وبين الأصدقاء في مصر، رسائل سوف تصبح شاهد قوي على فصل آخر من فصول تاريخنا الاجتماعي والسياسي، كان أهمها وقفة طويلة أمام حرب أكتوبر 1973 التي اعتبرتها إنجريد نصرا شخصيا، ظنت أن تلك الحرب سوف تفتح الأبواب لفصل سياسي جديد من تاريخ مصر يمكنها من عودة لم تفقد الأمل فيها ولو ليوم واحد، وبالفعل كان لها عودة بأمر سياسي!

تلك العودة كانت بداية الفصل الثالث في تاريخ العائلة، نشاهده من خلال يوميات ابنتها «آن»، السيدة الثالثة، التي أصبحت شاهد عيان على مرحلة شائكة من تاريخ المجتمع المصري؛ بالرغم من النصر الكبير شهد المصريين حالة من التفكك والتشتت الاجتماعي غير مسبوقة، بدأت بالهجرة إلى دول أوروبا، والسفر لسنوات للعمل في الدول العربية، والعودة في الإجازات الصيفية بعادات وطقوس ومظاهر دخيلة على المصريين.

ثم بدأت أحداث وقرارات صادمة تتصدر المشهد التاريخي، بالجماعات الإسلامية التي تصدرت القيادة الحزبية والعمل الشعبي السياسي في مصر لسنوات، حتى جاءت النهاية الدرامية باستشهاد الرئيس أنور السادات على أيديهم، وصولا إلى فترة حكم الرئيس مبارك التي شهدت مصر خلالها تراجع حضاري واجتماعي وعلمي، ندفع ثمنه حتى الآن، قتل هذا العهد المتخاذل الطموح والأمل في حياة الكثيرين منا لسنوات، فتن طائفية وحياة عشوائية اضطرت معها «آن»، أن تقرر الرحيل عن مصر.

بالوصول إلى هذا الجزء حتما سوف يتساءل القراء عن جدوى وأهمية قراءة اليوميات، بل مدى مصداقيتها من الأساس؟!

تكمن الإجابة في أن هذا النوع من الكتابة يقبل عليه صاحبه دون قيود، لا يجبره على الكتابة سوى التخفيف عن كاهله النفسي، والتوثيق العائلي لحياته، ورغبة في أن يؤكد لمن يأتون من بعده أنه كان هنا، له جذور وتاريخ يستحق أن يعيشون من أجله، لذلك فهي تحمل قدر وافر من المصداقية، كما أنك لايمكن أن تكذب على الورقة والقلم حين تختلي بذاتك وتقرر أن تكتب عنها، بالإضافة إلى أن التجارب الشخصية حاضر كانت أو تاريخ أخطائها فوائد، ودروس لمن يقرأها، تصبح طوق نجاتك الوحيد، حين تجد نفسك في نفس الموقف لكن بظروف تاريخية وجغرافية مختلفة، لكنه الإنسان تركيبته النفسية لا تختلف.

كما أن التاريخ الحقيقي هو ما عايشه الناس، هو التغيرات التي طرأت عليهم وتحملوها، لا يقتصر التاريخ أبدا على الأرقام، فثقافة العالم الأولى هي الحكي، رواية ما حدث وحفظه، ثم توثيقه لقراءته، وحرصا من الكاتبة على مصداقية الأحداث، قدمت للقراء ملحق بالرواية يحتوى على مجموعة صور خاصة بالعائلة المذكورة، فضلا عن الصورة التي تزين الغلاف، ولم تنسى أن تبدأ بنبذة عن تاريخ العائلة ومجرى حياتهم في السويد موطنهم الأصلي، لتقدم بذلك درس آخر للقارئ مفاده، أن المعاناة الإنسانية موجودة في كل المجتمعات، الفارق الوحيد في القدرة على التحمل وسبل المواجهة، وما نصبح عليه حين تنتهي المحنة، لتقدم بذلك صورة متكاملة للعالم في مراحل تاريخية مختلفة، باختلاف المصائر والعادات والتقاليد.

بنهاية أحداث الرواية التي أقتصرت على زيارات«آن»، متقطعة تأكد انتماءها لمصر، سوف يدرك القارئ أن هذه السيدة بذلك الموقف تعبر عن كثيرين ممن فقدوا الأمل في صحوة جديدةلهذا الوطن، وكانت تبحث عنها في عيون الشباب أثناء رحلاتها داخل مصر، حتى كانت زيارتها النهائية، فلم يخيب ذلك الشباب آمالها، فأثناء صعودها أحد الجبال، تبادر إلى ذهنها أن هناك مظاهرات في ميدان التحرير، وبمرور اليوم الأول تحولت إلى ثورة تاريخية، لحظات تأكدت من خلالها أن الشعوب قادرة على البحث عن الأمل، لإعادة ترتيب التاريخ، فهل ترحل مرة أخرى؟ وإلى متى سوف يستمر هذا الأمل؟ وما هو مصير هؤلاء الشباب وثورتهم؟!

تركت الكاتبة الإجابة لنا وللأمر الواقع الذي عايشناه، فلم توثق له، اكتفت بالتوثيق لحقيقة أننا استطعنا أن نسرق من الزمن ونهدي التاريخ 18 يوما من أمجد وأنبل وأشرف أيامنا.